إن الخطر الاستعماري الذي يهدد الوطن العربي الْيَوْمَ مختلف تماماً عن أخطار الماضي، رغم انه يشكل امتداداً لها. فقد تطور وتجاوز كونه خطراً يهدد تحقيق الوحدة العربية والمشروع القومي العربي، والإبقاء على الصيغة القديمة لتفتيت وتجزئة الوطن العربي، وهي وجود الدول التي تكونت بعد الاحتلال البريطاني الفرنسي الايطالي الإسباني البرتغالي، بل تخطى ذلك إلى تدمير الدولة القطرية والعمل على تطبيق الرؤى الاستعمارية الجديدة في إنشاء (دولة السوبرماركت) على حطام دولة ما بعد الاستقلال، أو استبدالها بإنشاء مناطق وكيانات غير معرفة تشبه الحكم الذاتي لها طابع اثني وطائفي ومذهبي.
إن هذا الخطر المتمثل بمزيد من التفتيت والتمزيق هو الذي يعمل التوحش الاستعماري الجديد بكل قواه لأجل تحقيقه والإبقاء عليه من أجل ضمان استمرارية وبقاء المشروع الاستعماري الجديد الذي نبت على جذع الاستعمار القديم وورث عنه كافة أدواته.
وفِي هذا الإطار فانه من المعروف جيداً إن خطط تفتيت الوطن العربي هي خطط استعمارية قديمة جديدة، وهي ذات إرث تاريخي قديم يرتبط تاريخياً بالغزو الاستعماري، وحسب الحقائق التاريخية الثابتة فإن أول تفتيت استعماري لبلادنا وقع إبان الاحتلال الروماني الذي استمر قرابة سبعمائة عام حتى تمت عمليات الاسترداد على أيدي العرب بعدما حملوا رسالة الإسلام، وكان الاحتلال الروماني قسم بلادنا إلى أجزاء بما يخدم رؤاه الاستعمارية، ومثال ذلك تقسيم وتفتيت سورية الطبيعية إلى أجزاء، وانتزاع سورية الجنوبية (فلسطين) وفصلها عن الوطن الأم، وفِي ذلك يقول المؤرخ العربي السوري احمد داوود: إن التاريخ لم يشهد فصل فلسطين عن سورية الأم إلا خلال ثلاثة عهود ظلامية استعمارية هي عهد الاستعمار الروماني وعهد الاستعمار الفرنجي وعهد الاستعمار الأوروبي الحديث، الذي عمل بشكل واضح وكبير وأكثر توحشاً على وضع الخطط وتنفيذها لتقسيم وتجزئة وتفتيت وطننا العربي، ووضع المؤامرات لتغريب امتنا العربية حتى وصل إلى ما وصل إليه الْيَوْمَ من تطوير حروب التفتيت والتدمير الدموية وفرضها على الأقطار العربية، واختراع حروب داخلية وإلباسها لبوس الطائفية والمذهبية والإثنية بما يحمل ذلك من أهداف التفتيت والتشظي والمحو.
إن كل ذلك التوحش الاستعماري الاستعلائي يحتاج إلى إنتاج صيغ جديدة للتعامل مع واقع مريع فرضه على أقطار وطننا العربي، وكذلك يحتاج إلى إعادة تعريف وتسمية لما أنتجته مخططاته السوداء، فقد أخذ بتسمية تقسيمات الدولة القطرية تسميات مذهبية وطائفية وإثنية، وإذا أخذنا العراق كمثال فإننا نجد التسمية الاستعمارية التفكيكية التقسيمية هي التي يستخدمها الاستعمار وأذرعه وأدواته ونجد أن الاسم الحديث الذي يريده الاستعمار الجديد، أو اسم ما بعد الاستقلال الحديث للعراق العربي "الجمهورية العراقية"، إذ اختفى الاسم بعد اختراع (حرب الديمقراطية) القائمة على الدم والفوضى، وحل محله تسميات مثل العراق الشيعي أو مناطق العراق الشيعي والعراق السني والكردي (هناك رفض عراقي راهن لهذه التسميات).. وهكذا يبدو العراق الجديد في ظل تسميات الاستعمار الجديد بعد أن تم فرض تغيير الاسم والجغرافيا في خطاب الاستعمار وأدواته، وفِي خطاب بعض المثقفين والإعلاميين والسياسيين المبهورين برياح العولمة الجديدة أيضاً والتي تهدف إلى تفتيت الأمم وإلغاء الدول واستبدالها بصيغ تحاكي السوبر ماركت والشركة في أحسن الأحوال.
مثل هذا ينطبق على سورية، لكن الأمر في سورية اختلف إلى حد كبير لأسباب كثيرة ومتنوعة مكنت الدولة السورية من الصمود أمام أشد وأشرس الحروب دموية وتدميراً، والتي تهدف إلى تنفيذ مخططات التقسيم والتجزئة والتفتيت الطائفي والمذهبي الذي تسعى قوى الاستعمار الجديد إلى تحقيقه وفرضه على ارض سورية، رغم أن تلك القوى المعادية استطاعت اختراع حرب طائفية ومذهبية وإثنية لعينة دمرت البلاد، بواسطة الآلة الحربية الاستعمارية الرهيبة وبواسطة عشرات آلاف المرتزقة والغرباء الذين تم إدخالهم إلى سورية ومن قبلها وحتى الْيَوْمَ إلى العراق تحت مسميات وغايات عديدة وكثيرة ومختلفة خدمة وتجييشاً ورفداً للمشروع الاستعماري الجديد.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها