الشاعرة الفلسطينية نهى عودة
دخلت إلى غرفة التحقيق بمقرّ المخابرات الصهيونية في الناصرة، وفوجئتُ بما رأيته على الطاولة، وثائق وملفات كثيرة عليها شعارات تنظيمات ومنظمات فلسطينية: فتح، الجبهة العربية، الجبهة الشعبية والديموقراطية والقيادة العامة.. ولم أدر إن كان الأمر مقصودًا لأرى كل ذلك أم أنّ استدعائي للتحقيق تزامن مع بسط كل تلك الوثائق والملفات التي بدا لي أنها كانت تحتوي معلومات كثيرة حول كل ما له صلة بالثورة الفلسطينية وما ليس له صلة بها أيضا؟
بكل جرأة وشجاعة، قلتُ للمحقق: لماذا استدعيتموني وأنتم لديكم كل هذا الكم من الملفات التي تخصّ أهلنا في لبنان؟ فضحك المحقق ضحكة رنّانة وقال لي: أنا سعيد بسؤالك هذا.. ولكن البحر يحب المزيد!
قلت: هل بحركم لم يجد غيري؟ ومن قال لكم أن عندي ما يروي بحركم؟ لن تجد عندي أيّ شيء.
عاود الضحك، وقال لي: لماذا هذه العصبية؟ نحن لا نريد منك شيئا إلا معلومات بسيطة قد تساعدنا، ولن نضر بك شيئا.
وطبعا كان المُحقق يراوغ كثيرا بهدف أن أطمئن له، وطلب لي فنجانا من القهوة التركية كما يُسمّونها، ثم طلب مني أن نصبح أصدقاء! كان يريد أسماء شباب وعائلات لم تغادر مع المقاتلين الفلسطينيين واختاروا البقاء في لبنان، وأيضًا من لم يخرجوا مع "أبي عمار" (ياسر عرفات).
قال لي: أعطني أسماء؟ قلت له: حسنا، عندناك محمد وأحمد ومحمود وعمر وعلي..
صوّب نحوي نظرة لن أنساها ما حييت، ثم انتفض وقال: ما هذه الأسماء؟ (وكان يقصد بسؤاله أسماءَ الأشخاص الذين يحملون ألقاب مثل أبو الطيب أو أبو الحسن.. وكان يريد أسماءهم بالكامل.
قلت له: أولسنا مسلمين وعربا؟ وماذا تتوقّع أن نسمّي أبناءنا: إلياس وجاك.. المسلم عندنا يختار أسماء أفراد عائلته على أسماء الصحابة واسم الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام. أنا لا أعلم شيئًا وليس لي معرفة بأحدٍ.
قال: هكذا! طيّب، هل ما زال لديهم مكاتب في محيط إقامتك؟
قلتُ: لا علم لي.. وكل ما أعرفه أنّكم دمّرتم كل شيء. لقد انتهى كل شيء.
قال: أنت مخطئة. نحن لم نفعل لكم شيئًا، العرب هم من قتلوكم ودمّروا بيوتكم وممتلكاتكم..
وأضاف قائلا: هل أذكّرك بحرب أيلول الأسود في عمان، والمجازر التي ارتكبها العرب بحقّكم؟ هل أذكّرك بحرب تشرين، وحرب المخيمات في سوريا، وأيضا المجازر بأيدي عربية وما حصل في لبنان؟ أين العرب، ولماذا لم يهبّوا إلى نجدتكم؟
قلت له: إذا كانت اليد التي دحرتنا في كل مكان في المخيمات هي يدٌ عربية، فأنتم المحرّك الأول والأخير.. أنتم مَن أمرهم بقتلنا وتدمير ممتلكاتنا! نعم أنتم.. ولولاكم أنتم لما كانوا هُم!
أنتم المحرّك الأول والأخير، أنتم من أمدّهم بالسلاح، وأنتم من خطّط لهم. نعم قد تكون اليد المنفذة عربيّة ولكن الفكر صهيوني.
وأضفت قائلة وأنا في حالة عصبيّة: أنا لا أنتمي إلى أيّ شخص يدّعي العروبة وهو متصهين.
وجّه صوبي نظرة لم أتبيّن معناها، وقال: أراك في لقاء آخر الأسبوع القادم.
واستمر الوضع على هذا الحال، حيث كل أسبوع يتمّ استدعائي من طرف هذا المحقق، لعله يستطيع أن يستجوبني بما يُشبع غروره أو على الأقل يستطيع أن يحصل مني على أيّة معلومات ربما لم تكن لديه، ولكن الوضع معي لم يكن كما توقّعه.
انتهت قصّتي مع التحقيقات في مكتب المخابرات الصهيونية في الناصرة، وفي آخر لقاء مع ذلك المحقّق، كان كلّ منّا ينظر إلى الآخر نظرة تحدٍّ، الفرق بيننا أنه كان ينتمي إلى الطّرف المُدجّج بالأسلحة، وأنا كنت من الطرف المُستمسك بالعروة الوثقى والإيمان.
بعد أيام قصيرة، غادرنا بلادنا فلسطين المحتلة، وأنا أحمل غصّة في قلبي من جميع من خذلنا.. لا سيما من العرب الذين تحالفوا مع اليهود ضدّنا، دون وازع من ضمير أو خوف من الله.
وأخيرًا عدنا إلى مخيّمنا الحبيب "برج البراجنة"، وعادت الحياة إلى طبيعتها وإلى روتينها اليومي، وزيارتنا إلى فلسطين أصبحت مجرد ذكرى وقصة تُروى.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها