بقلم: بشار دراغمة

لا شيء يثقل الروح أكثر من انتظار قاس على حاجز عسكري يصر أن يتحول إلى جدار يخنق أحلام العابرين.

نابلس التي باتت سجنًا تحت سماء مفتوحة، حيث أصبح لكل خطوة وزن في زمن العبور المستحيل.

هناك، على الحواجز التي تُحكم قبضتها كأصابع فولاذية حول عنق المدينة، تقف الكرامة الفلسطينية على رصيف الانتظار، تتأرجح بين رغبة في الحرية وخوف من المجهول.

كيف للإنسان أن يختزل حياته في بطاقة هوية ممدودة تحت نظرات متحفزة لجندي يحتكر قرار العبور أو منعه، هناك حيث تُقاس خطواتك بميزان مزاج ليس لك فيه نصيب، يتحول كل حلم بسيطٍ إلى معركة، هل تتمكن من عبور هذا الطريق، أم تظل تفاصيل حياتك شاهدة على نوايا معلّقة في الهواء؟

هناك، على مداخلها ومخارجها، يقف الزمن مشلولاً، تتجمد عقارب الساعة عند سؤال عبثي: "إلى أين؟" سؤال لا ينتظر إجابة بقدر ما يترك الإنسان في مواجهةِ حالة مزاجية متقبلة لجنود لا يعرفون متى يقررون فتح الحاجز أو إغلاقه.

ويجد أهالي نابلس أنفسهم أسرى لتطبيقات الهواتف الذكية، يترقبون بقلق الأخبار التي تُنقل عبر شاشات صغيرة عن مصائر الطرق ومزاج حواجز الاحتلال. هناك، في المدينة المحاصرة بحدود الحقد الاحتلالي، أصبحت منصات التواصل الاجتماعي نافذتهم إلى معرفة ما إذا كان اليوم سيمنحهم مرورًا آمنًا، أم سيبقى طريقهم مسجونًا خلف قرارات عسكرية لا تُخبرهم عن موعد الفرج.

لم تعد هذه المجموعات الافتراضية مجرد وسيلة تقنية، بل تحولت إلى صرخات إلكترونية تُخبر عن واقع مرير، تُسجّل حالات الفتح والإغلاق كما لو كانت نبضات قلب مدينة تحاول الحياة وسط الخنق. ومن يستطيع التنبؤ بمزاج الجندي الذي يحمل مفتاح الطريق؟ هذا المزاج المتقلب هو الحاكم بين الغياب والحضور، بين الوصول والبقاء عالقًا على أطراف الأمل.

ستة حواجز عسكرية تتوزع على مداخل نابلس ومخارجها، كأنها أسوار ترتفع حول مدينة تُحاصرها الشمس من فوق، والعيون المتربصة من كل جانب. كل حاجز منها ليس مجرد بوابة عبور، بل هو اختبار للصبر، يُعيد تشكيل حياة المواطنين كفصول يومية من الانتظار والترقب. وهكذا، تُختصر حركة المدينة وأهلها في تطبيق يخبرهم بما لا يحتاجون إلى سماعه، أن الحرية مؤجلة حتى إشعار آخر.

يستيقظ حسن عاصم يوميًا على روتين بات أشبه بمراسم النجاة اليومية. وقبل أن يلتقط حقيبته أو يحتسي قهوته، يمد يده إلى هاتفه، حيث الشاشة الصغيرة التي أصبحت خارطة الأمل والخوف، يتصفح المجموعات التي تحولت إلى دليل حي لحياة محاصرة، باحثًا عن إجابة لسؤال لا يغيب عن ذهنه: "أي طريق سيكون سالكًا اليوم؟".

حسن، الذي يقطن في نابلس ويعمل في رام الله، يعرف جيدًا أن يومه يبدأ عند الحواجز العسكرية، لا عند أبواب مكتبه. وبين حاجزي المربعة وعورتا، يتأرجح اختياره كما يتأرجح مصيره. هل سيجد طريقًا مفتوحًا؟ أم أن مزاج الجندي الذي يقف هناك، مسلحًا بالقرار والهيمنة، سيجعله يقضي ساعات طويلة في انتظار مرهق؟.

يقول حسن بابتسامة تحمل شيئًا من المرارة: "لم أعد أخطط ليومي بناء على عملي، بل على مزاج الحواجز. كل صباح، أقرأ التقارير في المجموعات وكأنني أقرأ طالع يومي. وأحيانًا، حتى لو كان الطريق مفتوحًا، لا أملك يقينًا بأنني سأصل دون أن يوقفني حاجز جديد أو يغير الجنود أوامرهم فجأة".

يقول حسن: إنه حين يختار أحد الطريقين، لا يكون اختياره حرية بقدر ما هو تفادي لألم أكبر مدركًا أن الطريق إلى رام الله ليس مجرد مسافة، بل رحلة في صميم المعاناة اليومية.

الحال ذاته تعيشه إيناس علي، التي تجد نفسها كل صباح في سباق مع الزمن ومع قرارات لا تخضع لأي منطق، تحمل حقيبتها وتغادر منزلها في نابلس، لكن رحلتها إلى رام الله ليست مجرد انتقال جغرافي، بل مغامرة يومية محفوفة بالتوتر والانتظار. قبل أن تخرج، تتفقد هاتفها بقلق، تبحث عن تحديثات في مجموعات التواصل الاجتماعي، لمعرفة المصير للخطوة التالية.

تقول إيناس وهي تتأمل الشاشة: "لم تعد حياتنا تُحسب بالساعات، بل بحالة الطرق. أحيانًا أضطر إلى تأجيل مواعيدي أو إعادة ترتيب يومي بالكامل بناء على ما إذا كان حاجز عورتا أو حاجز المربعة مفتوحًا. وحتى لو قررت المغادرة مبكرًا، لا ضمانات بأني سأصل في الوقت المناسب".

الحواجز بالنسبة لإيناس ليست مجرد نقاط تفتيش، بل عوائق نفسية وجسدية تقف بين رغبتها في الوصول وحلمها بحياة طبيعية.

تضيف بصوت يحمل شحنة من المرارة: "كل حاجز هو سؤال مفتوح بلا إجابة. حتى لو عبرت، تبقى الرحلة كأنها اختبار يومي لصبرنا وقدرتنا على الاحتمال".

وفي طريقها، تحمل إيناس على كتفيها أعباء العمل وأحلام الاستقرار، لكنها تعرف أن بين نابلس ورام الله يمتد خط من القيود، كل خطوة فيه مرهونة بمزاج جندي أو بقرار يهبط فجأة من دون مبررات.