بقلم: عبد الباسط خلف

ودع مخيم الفارعة أمس الأول الثمانيني أحمد عبد الله دغمان، الذي لم ينسَ مسقط رأسه الكفرين القريبة من حيفا، وظل متعلقًا بها حتى آخر أيامه.

وسرد قبل رحيله، وهو يعرض خريطة لبلدته، التي أعدها له رجا مصطفى صالح، الكفرين تعني بالتسمية القديمة (نجمة الصبح)، وهي كل حياتي، ولا أستطيع أن أنساها ولو للحظة، وأردد دائمًا أسماء أراضيها الشعبية، كالحواكير، والمرشقة، وتلة الزعترة، وأم القرامي، وطريق العرب الذي كان يربط بلدنا بمرج ابن عامر ويافا، والبيادر، وبئر خميس، ووادي البزاري، وعين البلد، ووادي العرائس، ووادي الحنانة.

واستذكر سماعه من شبان أن عين البيادر قديمة من أيام الرومان، وأنهم دخلوا إلى قلبها، وشاهدوا سردابًا، ومشوا فيه إلى أن انطفأت نيرانهم، دون أن يصلوا نهايته.

وبث دغمان، الذي أبصر النور في آذار 1937، شوقه لقريته، وقال: إن "عائلات الكفرين هي: سرحان، والغول، وخليفة، والعسوس، ونعجة، وعبد الجواد، والحاج يوسف، وأبو لبادة، وأبو سريس، أما مختار البلد فأديب أبو نجمة"، الذي كان من حيفا، بينما كان إمام المسجد الشيخ عبد الله الأحمد، ونعيم دروزة مدير المدرسة ومعلمها الوحيد.

- مدرسة وأناشيد

وتابع: كانت المدرسة غرفة واحدة، تضم أربعة صفوف، ودرسنا المعلم بالتناوب، فتعلمنا الحساب، واللغة العربية، والعلوم الطبيعية، واللغة الإنجليزية بدءًا من الصف الرابع.

لم يدرس الراحل إلا للصف الثاني، وحفظ أشعار أحمد شوقي (قم للمعلم وفه التبجيلا، كاد المعلم أن يكون رسولا)، وظل يتذكر أن طالبة واحدة جاءت لتدرس في صفهم وهي سهيلة شاكر الأسعد، إلا أنها غادرت المدرسة؛ لعدم وجود حمامات فيها.

ولم يغفل دغمان عن موقع دكان محمد سرحان وسليمان البابا، ولا النجار جبر المحمود، الذي كان يصنع المحاريث الخشبية، أما البيوت فكانت من الطين وسقفها من القصيب، وكان المقاول عبد الشوبكي يبني البيت مقاولة بعشرين جنيها، وهو يساوي مهر العروس.

وحسب ذاكرة الراحل الذي أدخلت وفاته الحزن إلى بيوت مخيم الفارعة، فقد كانت القرية تشتهر بالزراعة، خاصة الحبوب والحنطة والذرة البيضاء والملوخية، ولكنها تميزت بالفجل الذي كان يتضخم كثيرًا ويتجاوز وزنه 2 كيلو غرام، ويذهب إلى أسواق حيفا.

- "نطاطة الشبرين"

واستعاد دغمان: كان آخر عيد لي في الكفرين وأنا ابن الـ 12 سنة، ووقتها كنت أشاهد الكثير من العادات والمظاهر التي لم تكن تتكرر إلا في العيد.

ووفق الراوي، الذي كان أحد آخر الذين عاشوا النكبة في مخيم الفارعة، كانت العائلات تجتمع ليلاً وتتسامر بعد التكبير في المسجد، ثم يجمع الأهالي ثمن الأضاحي لغير المقتدرين، وفي الصباح يخرج الرجال للصلاة، وتذهب النساء لزيارة القبور، فيوزعن الحلوى وبعضهن النقود لمن يقرأ القرآن على أرواح الأموات.

وكانت "العيدية" بين 5 و10 قروش (كل عشرة ملات تساوي قرشًا)، وكان ثمن الأضحية لا يتعدى الجنيه ونصف الجنيه، وكان الصغار يطيرون من الفرح، ويبحثون عن ألعابهم الشعبية كـالدوش أو الحجلة والطمامية، ونطاطة الشبرين، فيما تذهب البنات إلى المراجيح المصنوعة من الحبال المربوطة بالأشجار.

وأعاد دغمان تمثيل اللعبة الشهيرة في العيد، وهي نطاطة الشبرين، التي لعبها قبل أكثر من 7 عقود، وفيها يضع اللاعب قدميه فوق بعضهما، ثم يأتي بكفيه المفتوحين ويضعهما في الأعلى، وعلى اللاعب أن يقفز دون أن يفقد توازنه أو يتخلى عن وضعية القدمين والكفين لينال الفوز.

- سفن صحراء

واسترد: انتشرت في القرية الجِمَال، التي كانت تستخدم لنقل البضائع، فيما كانت معظم الطرق ترابية. كما شاعت في الكفرين عادة مساهمة أهالي البلدة بتزويج الفقراء، فقد كانوا يجمعون المال، ويجهزون كل شيء للعريس، ويحتفلون ثلاثة أيام بلياليها بأفراحهم، وقد انقسمت القرية لشطرين، بين مزارعين وقادمين من مصر، وتعدى عدد سكانها الألف نسمة قبل النكبة.

وذكر أنه قبل النزوح قسرًا عن الكفرين، منعهم والده من أخذ أي أغراض، وقال لهم: (سنعود بعد يومين على الأكثر)، ورحل معظم الناس إلى أم الفحم، وانتقل منها نحن إلى سيلة الحارثية ورمانة، وبعضهم إلى جنزور (قرب  مثلث الشهداء جنوب جنين)، ثم إلى مخيم نور شمس فالفارعة عام 1957.

مما لم ينساه دغمان من صور: الشاب محمد العسوس، الطويل والجهم، والمشهور بـ(السفياني)، الذي راهن جنود الجيش العراقي، الذي كانوا يدافعون عن القرية، قبل الانسحاب، أن يحضر لهم المجندة التي كانت تطلق النار من فوق جبل بيت راس، فما إن كاد يصل لها، إلا وظنه جندي عراقي من العصابات الصهيوينة، فأطلق عليه النار، ليتدحرج من فوق الجبل، إلى قاع الوادي مثل الكرة، وأكلت البلد ترابًا حزنًا عليه.

 - جيش الإنقاذ

واستنادًا إلى الموسوعة الفلسطينية، وما قدمه دغمان من روايات، فقد ادعت العصابات الصهيونية أنها احتلت القرية في 12 نيسان 1948. وأفادت سجلات جيش الإنقاذ العربي أن القوات العربية انسحبت في اليوم التالي من منطقة تقع غرب الكفرين تمامًا. وكان هجوم فرقة "البلماح" على الكفرين جزءًا من عملية شنت بعد معركة (مشمار هعيمك).

وحسب صحيفة نيورك تايمز، فإن رئيس الوكالة اليهودية دافيد بن غوريون، وقيادة "الهاغاناه" عندما رفضا عرض جيش الإنقاذ العربي وقف إطلاق النار في هذه المعركة، قرر مهاجمة نحو عشر قرى مجاورة للمستعمرة وتدميرها، ومن جملتها الكفرين. وذكرت الصحيفة نفسها في 12 نيسان نقلاً عن إذاعة "الهاغاناه"، أن الكفرين كانت خامس قرية تحتل من بين القرى المحيطة بـ "مشمار هيعمك".