بقلم: علي الفرا

يدفع المواطن في قطاع غزة حياته ثمناً من أجل الحصول على الطحين، إذ وصل سعره لمستويات قياسية لا يتقبلها عقل، ولا منطق.

دأب المواطنون بالبحث عن مصادر قد يكون لديها أسعار معقولة للطحين، ما دفع الكثيرون للذهاب شرقًا وغربًا وجنوبًا وشمالاً بحثًا عن طحين بأسعار يمكنهم تحملها.

دفع الجوع وبكاء الأطفال، الآباء للتضحية بحياتهم من أجل أن يوفروا رغيف خبز لعائلاتهم، فراحوا يبحثون عن تجار قيل أن لديهم طحين بأسعار رخيصة، غير مكترثين بالمخاطر التي تتربص بهم من قناصة ومدفعية وطائرات الاحتلال الإسرائيلي.

يروي المواطن عبد الرؤوف الفرا الذي نزح مع عائلته من مدينة رفح إلى مدينة خان يونس، الحادثة التي وقعت مع نجليه اللذين حاولا الحصول على الطحين قبل نحو اسبوع من رفح، إلا أن أخبارهما انقطعت منذ ذلك الحين.

آخر ما تلقاه الفرا من نجليه، هو اتصال هاتفي من نجله محمد في اليوم الذي خرجا فيه للبحث عن الطحين في رفح، والذي أخبره أنه أصيب بينما شقيقه خالد استشهد.

بدأت الحكاية، عندما تلقى نجله البكر خالد والذي يسكن معه في منزل وسط مدينة خان يونس اتصالاً من شقيقه الأصغر محمد الذي اضطر للسكن في خيمة بالمواصي غرب المدينة يحثه على الذهاب معه لمدينة رفح للحصول على طحين بأسعار يقال إنها في المتناول، مؤكدًا له أن المنطقة المتواجد فيها تقع على أطراف رفح الشمالية ولا يوجد بها خطر.

حاول الفرا ثني نجليه عن الذهاب إلى هناك، خوفًا عليهما من المخاطر التي قد يواجهونها، إلا أن نجله محمد أكد له أن أحد التجار تمكن من الوصول لمحله في منطقة النصر شمال رفح ويوجد فيه كميات كبيرة من الطحين يبيعه بسعره القديم.

وقال الفرا: "في ظل إلحاح محمد وتأكيده لي أن المنطقة التي يوجد بها الطحين ليست خطيرة رغم أنها ضمن مناطق الإخلاء، ويوجد بها بعض السكان عادوا لمنازلهم ويعيشون بشكل طبيعي وافقت على ذهابهما".

وأضاف: "توجه إبني خالد إلى أخيه وتوجها إلى مدينة رفح للحصول على الطحين ولكن تأخر عودتهما جعلني أشعر بالقلق الشديد حاولت الاتصال بهما دون جدوى، ووصلتنا أخبار بعودة بعض الجيران من رفح ولكن لم يكن لديهم أي أخبار عن أبنائي".

وأشار إلى أن أحد العائدين أكد له أنه شاهد نجليه، ووصلا معًا للمحل التجاري الذي يوجد لديه الطحين ليفاجئا بنفاذ الكمية، غير أن صاحب المحل أرشدهم على عنوان لأحد أقاربه يخزن كمية من الطحين في منزله وقد يعطيهم منه بدون مقابل.

وبين الفرا، أن ابنيه ووفقًا لمرافقهم العائد صمما على الحصول على الطحين نظرًا لاحتياج عائلتهم الكبيرة وخاصة الأطفال للخبز في ظل شح المواد الغذائية بشكل عام وتوفر قليل منها بأسعار خيالية، رغم المخاطر التي قد يتعرضون لها كلما تقدمًا أكثر داخل المدينة.

ويتابع: عندما أخبرني محمد أنه مصاب وشقيقه خالد استشهد لم تعد قدماي قادرتان على حملي انهرت ولا أدري إن كنت قد غبت عن الوعي ولكن استيقظت على صوت أبنائي وأخي بجواري يحاولون معرفة سبب انهياري المفاجئ.

وأكد الفرا أن منذ ذلك الاتصال قبل أسبوع لم يعرف شيئًا عنهما، وما العنوان الجديد الذي توجهوا إليه وهل تمكنوا من الوصول هناك؟، منوهًا إلى أن أحد أقاربه أخبره أن بعض المواطنين شاهدوا شرق رفح أربع جثث قد يكون نجليه منهم.

وقال: رغم ما أخبرني به محمد إلا أنني ما زلت أتعلق بأمل ولو ضئيل أن يعود لي أحدهم على الأقل حيًا، فحاولت مرارًا الاتصال بهما منذ ذلك الوقت إلا أن هواتفهما مغلقة، ولا أعرف مصيرهما الحتمي بعد.

وأضاف الفرا: قبل يومين تمكن الهلال الأحمر والدفاع المدني من انتشال جثث من مناطق متفرقة من رفح استدعوني للتعرف على نجلي، ولكن لم أجدهما، شعرت حينها بدفعة أمل أن أراهم أحياء رغم أن كافة الدلائل تؤكد استحالة ذلك.

وأشار إلى أن نجله البكر خالد لديه من الأبناء ثلاثة اثنين منهم ذكور أكبرهم في العاشرة من عمره أما محمد الأصغر فلديه اثنين من الأبناء كلاهما ذكور أكبرهم في الخامسة من عمره.

ودمر عدوان الاحتلال المتواصل على قطاع غزة كافة ممتلكات الفرا، وحرم أبنائه من أعمالهم الخاصة التي كانوا يمتلكوها.

ولم يكن الفرا الوحيد الذي فقد أبنائه فهناك الكثير من المفقودين سواء تحت الأنقاض أو في المناطق المخلاة، ويتم العثور بشكل دوري على جثث في أماكن متفرقة من القطاع، الأمر الذي جعل من الصعب الحصول على إحصائيات رسمية ودقيقة حول عدد المفقودين منذ بداية العدوان على قطاع غزة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.

وما زالت مدينة رفح تتعرض وللشهر السابع على التوالي لعدوان بري تضمنت احتلال ما يسمى بمحور فيلادلفيا الذي يقع على الحدود مع جمهورية مصر العربية، إذ تشير إحصائيات وتقديرات إلى أن الاحتلال دمر بشكل كلي نحو 80% من المباني في رفح.

ويتعرض أي مواطن عند محاولته الدخول إلى المدينة للخطر، وهناك الكثير من الجثث تم انتشالها بعد انسحاب جزئي من قوات الاحتلال.

وما يدفع المواطنين لمحاولة التسلل إلى رفح أنهم يحاولون الوصول لمنازلهم للاطمئنان عليها أو لجلب حاجياتهم الخاصة التي لم يتمكنوا من حملها لحظة نزوحهم منها.

وبعض المواطنين في محافظتي خان يونس والوسطى تغريهم الأسعار المتدنية للسلع الموجودة على أطراف المدينة لمحاولة الوصول إليها في ظل الغلاء الفاحش للمواد الغذائية وخاصة الطحين حيث بلغ سعر الكيلو 40 شيقل أي أن الكيس 25 كيلو يصل سعره إلى 1000 شيقل.

وحسب المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) فيليب لازاريني، فإن إسرائيل "استخدمت الجوع كسلاح"، حيث "يُحرم الناس في غزة من الأساسيات، بما في ذلك الطعام للبقاء على قيد الحياة".

ووفق لتقرير صادر عن منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، فإن أزمة الغذاء في قطاع غزة لا تزال الأكثر حدة في تاريخ التقرير العالمي عن الأزمات الغذائية، مع وجود ما يقرب من 2.2 مليون شخص من السكان ما زالوا في حاجة ماسة إلى الغذاء والمساعدة.

وفي الأسابيع الماضية، بدأت أزمة حقيقة تلوح في وسط وجنوب قطاع غزة، بسبب نفاد الدقيق والمواد الأساسية من الأسواق ومنازل المواطنين، واضطرارهم لاستخدام الدقيق الفاسد لإطعام عائلاتهم، والبحث عن بدائل غير صحية.

وترتكب إسرائيل، القوة القائمة بالاحتلال، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 إبادة جماعية بغزة، خلفت أكثر من 146 ألف شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 10 آلاف مفقود، وسط دمار هائل ومجاعة قتلت عشرات الأطفال والمسنين، في إحدى أسوأ الكوارث الإنسانية بالعالم.