تصل التنظيمات السياسية ذات الانتماءات والمرجعيات اللاوطنية إلى مرحلة الاضمحلال والجفاف تدريجيًا ثم الهشاشة والانكسار نهائيا، لسبب واحد وهو تقوقع الإطار التنظيمي، وشحنه باستمرار أدبيات ومفاهيم المرجع الخالية تمامًا من فكرة الانتماء الوطني.
أما الدائرة الجماهيرية فنراها وفق خصوصيات وسمات ومظاهر محددة، وكذلك الدعاية والتعبئة والتنظير فإنها تعتمد خطين متوازيين، الأول يكرس الرؤية الخاصة، فيما يتم إغراق دائرة الجماهير بما تحب سماعه من الخطاب المنبري، ومشاهدته بما لا يتعدى الإثارة البصرية، مع حرص شديد على منع احتكاكها بمركز التفكير والتحليل والإدراك، وإبعاد أي إمكانية للإثارة الذهنية.

أما التنظيمات السياسية الوطنية، فإنها تتطور وتنمو وتعود أقوى مما كانت، وتبقى صامدة، قد تهزها رياح المؤامرات بدوائرها الضيقة والعريضة، الإقليمية والدولية على حد سواء، لكنها بهذا الاهتزاز تبعث روح المسؤولية الوطنية في عقلية قادتها الذين اعتمدوا الوطنية منهجًا، وحرية الشعب وتحرير أرض الوطن هدفًا، واشتقوا مبادئ وأهداف التنظيم الوطني، من الثقافة الوطنية للشعب، لذلك استحقت هذه التنظيمات شهادة "حركة تحرر وطنية" التي نالتها بعد امتحانات وتجارب مصيرية، كادت كل واحدة منها أن تودي بها إلى الهاوية، لكن العقل الوطني الناظم لرؤى ومواقف وقرارات قيادتها، أنقذ الجماهير والشعب من مصائر مجهولة العواقب، وذلك لأن كل عضو وقائد في حركة التحرر الوطني الفلسطيني "فتح"، يدرك جيدًا أن مصيره مرتبط بمصير الشعب، وأن مصير الشعب ومستقبله لا يقرره تنظيم سياسي، وإنما تسهم الحكمة والعقلانية والشجاعة لدى قيادة الحركة في أخذ القرارات التاريخية في اللحظات المناسبة، لتحقيق أهداف وطنية شاملة، متحررة من "الأنا الفئوية الحزبية" أو لمنع تداعيات كارثية، قد يكون الشعب ضحيتها، إذا حلت مصلحة التنظيم محل المصالح الوطنية العليا للشعب كافة.

الشعب بالنسبة للتنظيم السياسي الوطني الذي بات حركة تحرر وطنية هو الحليف الوحيد والفريد، أما العلاقة مع أي قوة رسمية أو شعبية أو أي دولة، فإن ناظمها وضابطها القرار الوطني المستقل، فالشعوب الحرة لا تسلم قرارها لغير قيادتها الموثوقة، والموثقة بشرعية شعبية القانونية ونضالية، وتحديدًا كما في حالة حركة التحرر الوطنية الفلسطينية، ولا نغفل أن تحالفات الدول المستقلة، والمحصنة سياسيًا، والقوية اقتصاديًا وعسكريًا، نجدها لا تفرط أبدًا باستقلالية قرارها تجاه قضايا إقليمية أو دولية، رغم اجتماعها تحت عناوين محددة في تحالف أو اتحاد أو محور، ونعتقد أننا في فلسطين ما زلنا على خطى التحرر من الاحتلال والاستعمار الصهيوني، وتحقيق الاستقلال والسيادة، وبالتالي فإن الغوص في المحاور سيكلفنا الذوبان في مشاريع وأجندات وأهداف تتعارض مع أهدافنا التكتيكية والإستراتيجية، المرسومة وفق رؤية وطنية، ومقررة في برنامج سياسي في أعلى مجلس تمثيل شرعي للشعب الفلسطيني كافة، وهو المجلس الوطني الفلسطيني.

التنظيمات ذات المرجعيات المستوردة من خارج حدود الوطن "الشعب والأرض"،  لا يدرك قادتها معنى القرار الوطني المستقل، والمصالح الوطنية العليا، ولا يدركون معنى العقلانية السياسية، فهؤلاء يسيرهم الغرور في لحظة تاريخية ما، فيظنون بامتلاكهم قدرة خارقة، قادرة على فرض واقع رسموه، لكن الحقيقة أنهم لا يستطيعون أكثر من تزيينه وتقديمه في خطاباتهم السياسية والدعائية في مخيلتهم الضيقة المحدودة، فيرون أنفسهم عمالقة في مراياهم، ويذهبون للاستخفاف بالرؤى والمبادرات وبرنامج حركة التحرر الوطنية، وسرعان ما ينقلبون على مواقفهم القاطعة، ويمضون بعكسها، دون إقرار بالخطأ، أو إرادة بإجراء مراجعة، تمكنهم من استلهام  واستكشاف الدروب الصحيحة، وذلك لأن الشعب خارج حساباتهم.