من واقع التجربة التاريخية لتطور الدول صعودًا وهبوطًا، وانهيارها وتفككها، منذ تبلورت فكرة نشوء الدول القومية وأسواقها مع انتفاء التشكيلة الاقتصادية الاجتماعية الاقطاعية، وصعود وتبلور التشكيلة البرجوازية الجديدة، التي حملت من ضمن ما حملت من ملامحها وسماتها نشوء وتطور الدول القومية منذ القرن السادس عشر، وتبلور عصر النهضة الأوروبية على أنقاض دورة الحروب بين القبائل والجماعات والاقوام والدويلات المتنافرة. 


ومع ذلك في سياق الصراعات المحتدمة بين القوى البرجوازية على تقاسم النفوذ فيما بينها كثير من الدول تم تفكيكها وإعادة تشكيلها، وآخرها كان الاتحاد السوفييتي مطلع تسعينيات القرن العشرين، وقبلها نماذج كثيرة من الدول من بينها دولة فلسطين، التي تم سحقها، ونكبة شعبها نتاج مؤامرة عالمية قادها الغرب الرأسمالي بمختلف تلاوينة ومركباته، وأقاموا على أنقاضها دولة لقيطة لليهود الصهاينة في أواسط القرن الماضي، وسبق ذلك الحؤول دون إقامة الدولة العربية الواحدة من المحيط إلى الخليج بعد تفكك الإمبراطورية العثمانية في نهاية الحرب العالمية الأولى، وبسبب التآمر الغربي الانكلوسكسوني الفرانكوفوني على قائد الثورة العربية الشريف حسين وقوى الأمة العربية الحية، وهناك نماذج تفكيك ألمانيا وفيتنام والصين وبولندا وغيرها من الدول. 


وكل النماذج التي ذكرت أنفًا، هي شعوب ودول أصلانية عميقة الجذور والتاريخ، وبالتالي تفككها، أو إسقاطها من الجغرافيا السياسية لحين من الزمن، لم يلغ هوية شعوبها، ولا تمكنت القوى المتآمرة على نفيها من التاريخ، ولم تستطع على تصفية أهداف وثوابت قواها الوطنية والقومية. 


لكن ما أردت التوقف أمامه، هو الدولة الصهيونية اللا شرعية واللقيطة، واللا اصلانية والتي ولدت وتطورت ليس بقوتها الذاتية، ولا وفق معايير التطور الطبيعي، وإنما استنادًا إلى الدور الموضوعي المقرر والحاسم في آن في نشوئها، وهذا العامل هو المنظومة الغربية الرأسمالية، صاحبة ومؤسسة الدولة اللقيطة، التي هيأت كل الشروط السياسية والقانونية والاقتصادية المالية والعسكرية الأمنية لقيامها وتطورها، وقامت وفق خطة منهجية بتجميع اليهود الصهاينة من أصقاع الأرض لإقامة الدولة على أنقاض نكبة الشعب العربي الفلسطيني، بالإضافة لتواطؤ العديد من الحكام العرب اتباع تلك القوى الغربية لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية والمالية وللانتقام من الحضارة العربية الإسلامية، ولمنع وحدة العرب.  


وهذه الدولة، كما ذكرت مرات عدة، ولدت وكل عوامل موتها وفنائها كامنة في داخلها. وكانت حكوماتها المتعاقبة تؤجل إحتدام تناقضاتها التناحرية وإنفجارها من الداخل باللجوء لتسعير الصراع مع العدو الخارجي، عبر شن الحروب على الفلسطينيين والعرب، بالإضافة للدعم السخي على الصعد المختلفة من قبل حكومات الدول الرأسمالية بقيادة الولايات المتحدة. بيد أن العامل الموضوعي بات مؤخرًا غير قادر على مجاراة زعران الدولة الفاشية الصهيونية، الذين ارتكبوا حماقات وجرائم بحق مجتمعهم المفكك أصلاً، رغم مرور 75 عامًا على إقامة الدولة، وإنقلبوا على نواظم الدولة الاستعمارية وجزئية "الديمقراطية" المقتصرة على سكانها اليهود الصهاينة دون أبناء الشعب العربي الفلسطيني، أصحاب الأرض والتاريخ والموروث الحضاري، وأخذت سيرورتها تنفث أزماتها العميقة في الداخل الصهيوني، بعد أن فشلت كل المسكنات والكوابح الذاتية والموضوعية في لجمها أو الحد منها، وباتت الدولة الصهيونية مكشوفة الظهر تمامًا، ولم تعد قادرة على إخفاء وجهها الفاشي، الذي بنيت على أساسه، حتى بلغت صيرورتها المتجانسة مع مركباتها الأساسية، وتجلت بصعود الصهيونية الدينية النازية سدة الحكم، والتي أطلقت العنان لقطعان المستعمرين أن يعيثوا فسادًا في القضاء الشكلي والوهمي، وفي الاقتصاد والمجتمع والسياسة والثقافة وحتى الدين، وقطعوا "الديمقراطية" الجزئية إربًا، وأعادوا المؤسسة العسكرية الأمنية "البقرة المقدسة" إلى مربعها الأول، إلى العصابات الإرهابية الأولى، ودفعت رؤساء المستعمرات لأخذ القانون باليد، وكل مستعمرة تفرض قانونها الخاص، ولم يعد القانون ينظم علاقات البنائين الفوقي والتحتي، بتعبير آخر، لم يعد المجتمع قادر على التعايش مع البناء الفوقي، ولا البناء الفوقي قادر على حكم البلاد، حتى دخل المجتمع الإسرائيلي مرحلة متقدمة من التناحر بين مكوناته، ولم يعد بالإمكان ضبط إيقاع التناقضات، حتى لو استقال نتنياهو وحكومته، فإن المجتمع الصهيوني وصل لحظة الشيخوخة، والتآكل الداخلي، وبات قاب قوسين أو أدنى من الحرب الاهلية الحقيقية بمعاييرها الكاملة. وبتعبير آخر، وصلت الدولة اللقيطة مرحلة التفكك والاندثار. وكونها دولة غير أصيلة، فإن نهايتها اقتربت، ولن تترك أثرًا لشعب، أو هوية ما، ولن يؤثر غيابها على اتباع الديانة اليهودية، الذين سيعودون إلى بلدانهم الأصلية أو يبقوا يعيشون بين ظهراني الشعب العربي الفلسطيني. 


ولنلاحظ المفارقة الهامة، أن موت وإنهيار وتفكك الدولة الصهيونية اللا شرعية، يتلازم مع تراجع وإنهيار الإمبراطورية الأميركية، وسقوط الحضارة الغربية، وصعود الحضارة الكونفوشوسية/ الصينية، ولكن تفكك إسرائيل سيكون البداية.