لأنك شاعر غير عادي وإنسان غير عادي وصديق غير عادي اخترتُ أن تكون كلمتي خارجة عن المألوف في هذا الحفل الثقافي الذي يجري في صرحك وأنت حاضر فيه غائب عنه أو غائب عنه حاضر فيه وفينا.

لن أقول كلامًا معادًا كما أكد الشاعر الفارس قبل خمسة عشر قرنُا، فلن أقول: "في مقلتيها الكحيلتين حفظت ثقافتُنا فلسطينَنا في سنوات برد النكبة وجفاف أيامها عندما رودت أغانينا للعروس وعزفت شبابتُنا للوليد الطالع من رحم المخيم حاملاً علمًا وبندقية" فقد قال هذا الكلام غيري وأجادوا".

ولن أقول أيضًا "على الرغم من ذئاب الصحراء وضباعها حافظت ثقافتنا، قصيدة وقصةً وروايةً ولوحةً وأغنيةً، حافظت على إنسانيتها قبل أن تكتب "آخر الليل" الذي بكى طوله أخوك لأبيك".

ولن أردد أهمية جائزة محمود درويش وما يتنفسه فجرُها وتوحيه حروفها فقد قدمه رفاق آخرون على أوراق خضراء شدت السامعين في سنوات خلون، وقد يعترض أحد الحاضرين المحترمين هامسًا: ما المانع ففاتحة الكتاب تبقى ملفعة بقيمتها وبيانها وجمالها على الرغم من ترديد المؤمن لها مرات ومرات في كل صلاة من صلواته.

منذ التقى فقرُ الفتى البرناوي اللاجئ بفقر الصبي الميعاري اللاجئ على الشوارع البدائية للقرية الجليلية العذراء المرتاحة على ذراع الجليل الغربي، وأنت الفتى العربي الفلسطيني القلق كأن الريح تحملك، وأنت صياد ماهر تلتقط المكان بصنارة الكلمات التي لها لون اللوز الأخضر وطعم التين الغزالي، تلف اللغة بذراعك وتجعل كلماتك زنارًا لخاصرتيها، وتزاوج الحرف الأنثوي بالحرف الذكري فتولد كلمات فيها ملح زائد، تسوسك وتسوسها يا فارس الحصان الذي تركه أبوك وحيدًا على هضاب البروة فسمع الناس صهيله على سفوح الليات وفي الموارس التي تحتضن جدول النعامين، وفي تلك السنوات رأيتُ فيك طرفة بن العبد وأبا الطيب وأبا العلاء فيما كانت أناملك الرقيقة تتطاول كي تلامس سماء الوطن.

خمسة عقود وأنت تقلع المعادن النفيسة من محجر اللغة وتُشيد دولة من الحروف وتبني وطنًا جميلاً من الكلمات وتزرع حبة القمح التي تموت كي تخضر، وفي موتها حياة طفل برناوي مقدسي يافي صفدي عكي خليلي غزي نسأله: من أين الشاب بلا (زغرة) صغرة؟ فيجيب: من مخيم جنين.

يردد أشعارك الصغارُ والكبارُ والرجالُ والنساءُ والشبان والصبايا ويسجلون قوميتهم بأبياتها في بطاقاتهم، ويحبون الحياة بمقاطعها، وينتظرون حبيباتهم بها، ويلعبون النرد بتفعيلاتها، ويشربون القهوة المهيلة بفناجينها، ويعشقون الجميلات بحروفها، ولا يعتذرون بها عما فعلوا، ويحاصرون الغازي ويعزفون بالكمنجات، ويزرعون الأمل للأسرى بمقاطعها، ويحبون نوار اللوز ومشمش السيدات من حروفها.

أورثتنا القهوة ورائحتها ومذاقها، وحدةً وجماعةً، نافذةً مفتوحةً للشمس والهواء ونايًا ينادي البعيد.

أورثتنا ريتا الاسم الشعري لصراع الحب في واقع الحرب، اسمًا شعريا لعناق جسدين في غرفة محاصرة بالبنادق.

غرست جداريتُك في نفوسنا وهمًا جميلاً يبرر وجودنا على هذه الأرض ويهزم الموت بعدما أكد لنا الفدائي بأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة.

ما حظيَ شاعر عربي منذ ابن زبيبة يا ابن حورية بهذا الحب الذي بادلك إياه شعبك، وما بنى العرب والعجم صرحا لشاعر أو فنان من بلاد قصر الحمراء إلى بلاد البتراء وصنعاء مثل هذا الصرح الذي نُحيي فيه ميلادك، وما احتفلت شعوب الأرض بميلاد إنسان إلا بميلاد عيسى ومحمد فالمجد كل المجد لهذا الشعب الذي حول يوم ميلادك إلى عيد قومي للثقافة.

ساعدني يا خيا محمود لأشكر باسمك وباسمي كل من عمل وساعد على بناء هذا الصرح الثقافيُ الشامخ من سيادة الرئيس محمود عباس حفظه الله إلى العامل الذي يُقلم أزهار حديقة الجليل وأن أشكر هذه المؤسسة الراقية، ورئيسها د. زياد أبو عمرو، التي تحمل اسمك والحريصة على تراثك الذي هو تراث وإرث الشعب العربي الفلسطيني.

المصدر: الحياة الجديدة