عاد إلى الواجهة مجددًا قانون الكونغرس الأميركي "غزو لاهاي"، الذي سمي رسميًا بقانون "حماية أعضاء الخدمة الأميركية". لأنه يهدف إلى حماية أفراد القوات المسلحة الأميركية والمسؤولين في الحكومة، سواء كانوا معينين أو منتخبين، الصادر في تموز /يوليو 2002 بعد إصدار محكمة الجنائية الدولية مذكرتي اعتقال بحق نتنياهو وغالانت يوم الخميس21 تشرين ثاني/نوفمبر الحالي.
والسبب في التسمية العرفية "لقانون غزو لاهاي"، جاء بعدما انتشرت بين المهتمين بسبب المادة 2008 من القانون، التي تنص على السماح للرئيس (الأميركي) باستخدام الوسائل الضرورية كافة لإطلاق سراح أي من أعضاء الخدمة الأميركية سواء كان محتجزًا أو معتقلاً من قبل المحكمة الجنائية الدولية أو بالنيابة عنها أو بأمر منها". مما دعا الكثير من المتابعين لتفسير المادة، أن الولايات المتحدة قد تذهب لاستخدام الوسائل كافة لتحقيق هدف الإفراج عن الأشخاص الأميركيين المعتقلين أو المحتجزين في لاهاي أو غيرها من الدول، بما في ذلك غزو المحكمة الدولية في مدينة لاهاي الهولندية.
وبعد صدور القانون الأميركي تحفظت الحكومة الهولندية عليه، واعتبرته يشكل تهديدًا ليس للمحكمة الدولية، إنما للدولة الهولندية. وكما يعلم الجميع، فإن الولايات المتحدة صوتت في تموز/يوليو 1998ضد نشوء وتأسيس المحكمة الجنائية الدولية ونظامها الأساسي، الذي عُرف لاحقًا باسم "ميثاق روما"، وهو القاعدة القانونية التي أقيمت عليها المحكمة، لأن لها تحفظات على النظام والمحكمة على حد سواء. ورفض البيت الأبيض المصداقة على ذلك.

المهم هنا، وبعد صدور مذكرتي اعتقال المسؤولين الإسرائيليين تم استحضار قانون "غزو لاهاي"، على اعتبار أن إسرائيل وجيشها ومسؤوليها المدنيين والعسكريين جزء لا يتجزأ من المسؤولية الأميركية، بحكم العلاقات الاستراتيجية بين الدولة الإسرائيلية الأداة الوظيفية وسادتها في واشنطن، ومن هنا جاءت المصادقة من قبل الكونغرس الأميركي في 5 حزيران/يونيو الماضي على قانون جديد يسمح للولايات المتحدة بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، كما يفرض عقوبات على المحكمة والمدعي العام والقضاء فيها إذا حققت أو حاكمت أشخاصًا محميين من واشنطن أو حلفائها. ولهذا عميق الصلة بالإبادة الجماعية ضد الشعب العربي الفلسطيني في قطاع غزة، التي أودت بحياة أكثر من 50 ألف شهيد وما يزيد على 104 ألف جريح حتى اليوم 418 من الإبادة الجماعية.
ولهذا يسعى السيناتوران توم كوتون وليندسي غراهام لمصادقة مجلس الشيوخ على القانون الذي أقره أعضاء مجلس النواب. وهنا تبرز بعض الأسئلة المتعلقة بالأمر، ما هي العقوبات التي يمكن أن تلجأ لها الولايات المتحدة الأميركية؟ هل تلجأ لتنفيذ غزو لاهاي واعتقال المدعي العام والقضاة الذين أصدروا مذكرات الاعتقال ضد نتنياهو وغالانت، أم ستكفي بفرض عقوبات معينة عليهم؟ وهل من المنطقي غزو هولندا، البلد الحليف لها، والعضو في حلف الناتو، والمعروفة بدعمها الكامل لدولة التطهير العرقي الإسرائيلية؟ وهل تذهب بدلاً من ذلك، لاغتيال بعضهم، أم لتلفيق تهم لهم، أسوة بما حصل مع المدعي العام كريم خان، الذي اتهم بالتحرش الجنسي؟.

حسبما أعتقد، لا يمكن في الوضع الراهن قيام واشنطن بغزو لاهاي. لأن ذلك يعمق التناقضات مع دول الاتحاد الأوروبي وليس هولندا فقط، ويحمل في طياته إخطارًا على التحالف الاستراتيجي مع الغرب الرأسمالي الأوروبي، في الوقت الذي تعمل فيه الولايات المتحدة الأميركية لتعزيز وتعميق تحالفها مع دول الاتحاد في ظل التحولات الجيوسياسية العالمية الاستراتيجية، وصراعها المحتدم مع كل من الصين الشعبية وروسيا الاتحادية خصوصًا ودول البريكس، وبالتالي لا أميل لهذا السيناريو. وعليه فإن الاحتمال أو السيناريو الأكثر معقولية يتمثل في فرض عقوبات مثل: سحب الجنسية الأميركية، إن كان بعضهم يحمل الجنسية، أو منعهم وعائلاتهم من دخول الولايات المتحدة، أو وضع اليد على أرصدتهم البنكية في البنوك الأميركية، بالتلازم مع تلفيق تهم ضدهم، ونبش الماضي الخاص بهم، بهدف تشويه سمعتهم، وخلق الأربكات الاجتماعية والقانونية لهم، والسعي لمحاصرتهم على أكثر من مستوى وصعيد. لكن واشنطن ومعها تل ابيب لن تقف مكتوفة الأيدي ولن تمرر إصدار مذكرتي الاعتقال ضد المسؤولين الإسرائيليين مرور الكرام. لأن كلا الدولتين ومن يدور في فلكهم يخشون من تبعات وتداعيات هذه الخطوة. لأنها بالضرورة ستفتح الأبواب أمام ملاحقة المسؤولين الاميركيين والإسرائيليين في المستقبل. وقادم الأيام كفيل بالجواب.