بقلم: عبد الباسط خلف

كان مساء أمس الأول ثقيلاً على يعبد، جنوب غرب جنين، إذ هبطت الأحزان على عائلتي حمارشة وزيد، فخسرت الأولى فلذة كبدها الفتى محمد ربيع، فيما فقدت الثانية الشاب أحمد محمود قبل إنهاء فصله الجامعي الأول.

وقال علي زيد، وهو شاهد عيان: إن "الاحتلال اقتحم يعبد، وفتح جنوده النار بكثافة ومن مسافة قريبة نحو الفتى والشاب، ما أدى لإصابتهما بعدة رصاصات في الأجزاء العلوية من جسديهما، بعدها منع المقتحمون مركبات الإسعاف من الوصول إليهما، حتى تأكدوا من استشهادهما، ثم نقل جثمانيهما إلى مركز طوارئ البلدة".

- اتصال أخير

بينما استعاد أمجد حمارشة، الاتصال الهاتفي الأخير من ابن أخيه محمد، فقد باح له برغبته بإنهاء الثانوية العامة والالتحاق بالجامعة والانتقال إلى رام الله، التي يعمل فيها العم مديرًا لموقع توظيف.

وأوضح أن ابن شقيقه البكر في العائلة، يليه إسلام (15 ربيعًا)، وبعده نور (في سنتها السابعة)، وآدم (ابن العام الثالث).

ووفق العم المكلوم، فإن محمد كان فرحًا بهدية عمه أحمد المقيم في عارة داخل أراضي الـ 48، إذ قدم له قبل يومين دراجة كهربائية، لكنه لم يستعملها إلا لوقت قصير، فقد كان لرصاص الاحتلال رأي آخر.

وحرص الفتى حمارشة على مرافقة جده جميل، وكان ساعده الأيمن في أعمال البستنة ورعاية أشجار الحمضيات وكروم العنب في أراضي البلدة، إلى أن رحل الجد قبل 8 أشهر.

وتابع أمجد: قتلوا محمد على بعد نحو 300 متر من بيته، فقد استفاق من نومه مساءً وتوجه إلى بيت جده لوالدته أبو خالد، وهناك قتلوه بدم بارد، وها هو اليوم يدفن بجوار جده جميل على بعد 50 مترًا من باب منزل العائلة المجاور للمقبرة، ما يعني أن أحزان الأسرة ستبقى مفتوحة إلى الأبد.

- مقعد شاغر

وبشق الأنفس، استعاد علاء زيد الكيلاني، وهو معلم التربية الإسلامية في مدرسة الشهيد عز الدين القسام، اللحظات الأخيرة التي جمعته بطالبه محمد، ابن الصف الحادي عشر الأدبي.

وقال بصوت حزين: إنه "صحح امتحان الشهري لمحمد قبل أيام، وسلم الورقة لطالبه المؤدب والخلوق وكثير الصمت والهدوء، وصاحب القلب الطيب، بينما بقيت معظم أوراق الامتحانات الأخرى مع المعلمين، ولم يرها صاحبها".

وأشار زيد الكيلاني أن المقعد الثالث في الناحية اليمنى من الصف سيفقد صاحبه بشكل نهائي، ولن يتمكن من الحصول على شهادة الثانوية العامة، ولا الذهاب إلى الجامعة.

وتابع: أن "الدرس الأخير الذي تلقاه محمد كان الخميس الفائت، حينما فسروا الجزء الثاني من سورة الإسراء، فيما سمع الفتى الشهيد آخر كلمة للمدير في الإذاعة الصباحية"، وفيها طلب الأستاذ محمد أبو بكر من تلاميذه الانضباط والتفوق رغم الظروف العصيبة، واستحضر أمامهم شهداء المدرسة وأسراها وجرحاها، ولم يقفز عن متفوقيها.

- أحلام وبرمجة

وفي جهة مقابلة، بث مهند زيد أحزان العائلة على ابن شقيقه أحمد محمود، الذي التحق بكلية مجتمع فلسطين التقنية (خضوري) في أيلول الماضي، ولم يكمل أحلامه في دراسة البرمجة، فقضى برفقة صاحبه اللصيق محمد حمارشة.

وقال العم: إن "أحمد نال الثانوية العامة الصيف الماضي في الفرع الأدبي، بمعدل 81، وكان يحلم بإكمال دراسته، والإسراع في التوجه إلى العمل لمساعدة والده، لكن رصاص الاحتلال قطع الطريق على كل شيء".

ويشغل أحمد الترتيب الأخير في عائلته، فيسبقه عاصم القابع خلف ستائر العتمة، منذ عام ونصف العام، ثم قصي الذي يشتغل في أعماله الحرة، وثلاث أخوات، فيما ترك أمًا مكلومة وأبًا محزونًا.

وأشار زيد إلى أن ابن أخيه كان طموحًا، ويعمل طوال العطلة الصيفية في زراعة التبغ لعون عائلته، لكنه ارتقى على بعد نحو 50 مترًا من منزل عائلته، وكان يفصله عن صديقه اللصيق محمد نحو 5 أمتار فقط، فبينهما شارع فقط.

واستحضر بألم آخر مشهد جمعه بابن شقيقه، فقال: "كنت أعصر مساء الجمعة الزيتون، وأصر أحمد أن يتولى بمفرده أعباء نقل الزيت إلى بيتي، وقد منعني من حمل أي شيء، ولم أعلم أنها لحظات الوداع".

ونعت جامعة فلسطين التقنية (خضوري) طالبها زيد، وأعلنت تعليق الدوام حدادًا على صاحب الوجه البشوش والبشرة السمراء.

وذكر رئيس قسم الحاسوب في الجامعة، قاسم سلهب: أن "أحمد التحق الفصل الحالي في الكلية بتخصص برمجة تطبيقية الحاسوب (صفحات الويب)، وسجل 18 ساعة".

وأكد أن زيد، الذي حمل الرقم 202412213، لم يتقدم سوى لامتحان واحد في مساق المهارات الرقمية، فيما كان يحتاج لأسبوعين إضافيين لإنهاء امتحاناته في أول فصوله، لكنه سيغيب إلى الأبد عن مقاعد الدراسة، ولن يسجل في الفصول التالية، مثلما لن يعرف علامته في أول امتحان.