في ما يمكن وصفه بمحاضرة تاريخية هي الأولى من نوعها، بلا أية مبالغة، قدم سيادة الرئيس أبو مازن خلال لقائه مع عدد من الكتاب، والمثقفين، والأكاديميين، وقادة من المجتمع المدني، الخميس الماضي، في مقر الرئاسة، وعلى مدار ساعتين ونصف الساعة، سرداً مكثفًا لتاريخ القضية الفلسطينية، والذي سنعرف – ولأول مرة – أنه تاريخ قد بدأ منذ القرن التاسع الميلادي، مع دولة الخزر الذين تهود أهلها لاعتبارات مصلحية بحتة، وباتوا القبيلة الثالثة عشرة (..!!) من خارج التوراة التي تعرف اليهودي بأنه سليل الأسباط الاثني عشر فحسب، وهذا يعني أن من يحكم في إسرائيل اليوم، من الأشكيناز هم من أبناء هذه القبيلة...!! وعلى أساس هذه المعرفة بأصولها التاريخية، تتكشف الرواية الصهيونية، رواية بالغة الزيف والتلفيقات العقائدية، التي لا علاقة لها بالدين اليهودي...!!
وفي هذه المحاضرة تجلى الوعي في التاريخ، كضرورة لوعي المستقبل، وبمعنى من يدرك التاريخ في ماديته الجدلية، المحرك الأساس للصراع والتطور، سيدرك سبل صناعة المستقبل، وعلى هذا النحو كان سيادة الرئيس أبو مازن يجسد هذا الوعي، في هذا الإطار، إطار صناعة المستقبل، بحفره الآركيولوجي العميق في تاريخ القضية الفلسطينية، وهذا يعني أن هذا الوعي في المحصلة، هو ضرورة حرية وتحرر، وبالطبع لن يكون هذا الوعي كذلك، دون تأصيل، والتأصيل في اللغة هو علم أصول الكلمات، وفي التاريخ إذا جاز لنا التقدير، هو علم أصول الصراع لأنه وكما أشرنا فإن مادية التاريخ وجدليته تظل وحدها المحرك الأساس للصراع والتطور.
تأصيل وعي الصراع هو الضرورة التي لا يمكن تجاوزها، إذا ما أردنا لا دحراً للرواية الصهيونية المزيفة، وتكريس رواية الحق الفلسطينية فقط، وإنما كذلك من أجل أن نمضي بمشروعنا الوطني التحرري، بسياسات وبرامج نضال وبناء إبداعية وخلاقة، نحو تحقيق أهدافه العادلة، والمشروعة كاملة، في الحرية والعودة والاستقلال.
وتأصيل وعي الصراع هو أن نعرف جيدًا من هم صناع نكبة شعبنا حقاً، النكبة التي أحالته في العام ثمانية وأربعين من القرن الماضي، إلى مجموعات لاجئين مشردين في خيام البؤس والألم والضياع، وبمعنى أن نعرف الأصدقاء والأعداء من حولنا جيدًا، فلا نتيه في علاقات، وتحالفات فئوية، أو إقليمية، أو عقائدية، تجعجع فحسب ولا طحين من ورائها البته، ولندرك الأهم أن القرار الوطني المستقل، كان، وما زال، وسيبقى ضرورة حرية، وتحرر كذلك، ولا شك أنه بحكم هذا القرار، فإن تجربة ثورة شعبنا في العام ستة وثلاثين، التي أخمدها نداء من الملوك والرؤساء العرب في ذلك الحين (...!!) لم تتكرر، ولن تتكررمع كفاحنا الوطني الذي شق دروبه في العام خمسة وستين بالرصاصة الأولى التي أطلقتها حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" وأطلقت معها القرار الوطني المستقل.
وسيظل تأصيل وعي الصراع كذلك، أساسًا لتخليق وعي الدولة، وبمعنى إدراك حتميتها لحياة حرة، وعادلة، ومزدهرة، وهذا يفرض ضرورة تأصيل هذا الوعي في مختلف المناهج التربوية، والسياسات الإعلامية، وفي نصوص الإبداع الأدبية والفنية والثقافية، ولطالما كان شاعرنا الكبير الراحل محمود درويش عارفًا في هذا الإطار بأهمية هذا التأصيل، عندما صاح مغنيًا " أنا من هناك " وبالطبع كان يعني فلسطين، بتفاصيل الوجود الطبيعية لأهلها، خاتما قصيدته بالمعرفة اللازمة " تعلمت كل كلام يليق بمحكمة الدم / كي أكسر القاعدة / تعلمت كل الكلام، وفككته كي أركب مفردة واحدة هي الوطن".
فكك سيادة الرئيس أبو مازن في لقائه، التاريخ كله، بكلماته وتواريخه، ليركب لنا مفردة واحدة هي الوطن أيضًا، بجملته الواعدة، جملة الدولة المستقلة، بعاصمتها القدس الشرقية، وهذا ما يعنيه بعد كل قول تأصيل وعي الصراع.
المصدر: الحياة الجديدة
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها