أن تكون فلسطينيًا فأنت عظيم، وبإمكانك أن تشعر بالفخر، وأن تكون فلسطينيًا في القدس فأنت المعجزة بذاتها؛ لأنك تمثل الحقيقة التاريخية والراهنة، أنت لا تخاف هم يخافونك، لأنك ظاهرة لا يمكن كسرها والحاق الهزيمة بها. قبل أيام عديدة فقط كانت الأمة العربية فاقدة الإرادة بلا مضمون، مقنع، مستسلمة للمشروع الصهيوني وكأنه قدر لا يمكن الهروب منه أو مواجهته. ومع نهوض المارد الفلسطيني في القدس بدأ العرب يستعيدون بعضًا من كرامتهم المهدورة، وربما شعر من هرول للتطبيع مع الاحتلال أنه قد تسرع، وأن اعتقاده هو ونتنياهو أن الشعب الفلسطيني قد انتهى ونجحوا في الإجهاز عليه، كان اعتقادًا ليس في محله وسابقًا لأوانه.
مانشيت جريدة "الحياة الجديدة" أمس لخص بذكاء الفكرة "لا تحاول...لا فناء لثائر"، بمعنى أن إسرائيل لن تنجح في هزيمة الفلسطيني الصامد على أرضه، المصر على المطالبة بحقوقه. لقد حاول مهندسو ومنفذو المشروع الصهيوني إلغاء وجود الشعب الفلسطيني وفشلوا، وحاولوا أن يسلبوه إرادته ويصبح مجرد سكان محليين مثله مثل سكان أميركا الأصليين، الذين اطلق عليهم المستعمر الأوروبي الأبيض اسم "الهنود الحمر"، ومرة أخرى فشلوا. الفكر العنصري يعمي صاحبه ويجعله لا يرى الحقيقية. في القدس اعتقدت إسرائيل العنصرية أنها نجحت في احتواء المواطنين الفلسطينيين هناك، وبشكل عام. وبعد أربع سنوات عجاف للرئيس الأميركي ترامب، وإخضاع بعض العرب وجرهم للتطبيع المجاني مع دولة الاختلال، فإن إسرائيل اعتقدت أن الشعب الفلسطيني بمجمله أصبح محبطا يائسا، وفي القدس على وجه الخصوص، هو أكثر إحباطًا بعد إعلان ترامب، ولكن هذا الوهم العنصري سرعان ما سقط في القدس القديمة وفي الشيخ جراح.
لا يستطيع أي أحد بعد انتفاضة المقدسيين تجاهل أن القدس فلسطينية، وأن إسرائيل المتمادية والمستعجلة في خطط التهويد وجدت نفسها مرة أخرى وجها لوجه مع الحقيقة الفلسطينية، وأنها هي الطرف المهزوم في معادلة فرض إعلان ترامب. انتفاضة القدس هي من ترجم نوعا من الصحوة في مواقف العالم. بما فيه موقف وزارة الخارجية الأميركية، والذي تضمن تراجعًا ضمنيًا عن إعلان ترامب، عبر الدعوة بعدم المس بواقع القدس كقضية تحسم بالتفاوض.
المعركة الجارية في القدس لا تقف عند حدود المدينة وهويتها الفلسطينية، لأنه وعندما ينجح الفلسطينيون في تثبيت فلسطينية القدس إنما هم يؤكدون الحقيقية الأوسع بأن فلسطين فلسطينية للشعب الفلسطيني ولن نكون غير ذلك. من هنا بدأنا القول إن الفلسطيني في القدس هو المعجزة بعينها، لأنه أسقط الوهم الذي تسلل لدى بعض العرب أن المشروع الصهيوني لا يمكن هزيمته، وبالتالي هم وافقوا على التضحية بفلسطين مقابل ضمان بقائهم، وهذا هو الوهم الأكبر.
انتفاضة القدس لم تكن درسًا للعرب والعالم. بل هي درس للداخل الفلسطيني أيضا، الذي كان قبل أسبوع واحد فقط يائس ومحبط. وممزق، قبل أسبوع كدنا ننسى أننا حركة تحرر وطني وأن تغرق في مستنقع الصراع الدموي على السلطة. كنا على وشك الاستسلام لمنطق التدخلات الخارجية الشنيع في شؤوننا الداخلية، وكدنا نسلم رؤوسنا وقرارنا الوطني المستقل لمن طبعوا مع الاحتلال، أو من يسمسرون معه ويعطونه الوعود بأن الورقة الفلسطينية ستصبح في جيبهم ليقدموها هدية لنتنياهو. أبطال القدس أسقطوا هذه المخططات كما أسقطوا إعلان ترامب وصفقة القرن.
لكن علينا الحذر لأن المعركة لم تنته بعد، وأن الأطراف ذاتها ستعمل وبكل السبل على إجهاض ثورة الشعب الفلسطيني في القدس، ومحاولة إعادتنا لدائرة الإحباط. من هنا أهمية أن يقف الشعب الفلسطيني موحدا خلف الصامدين في الشيخ جراح والقدس عموما. ليس من المسموح فتح معارك جانبية والقدس تنتفض، وألا نكون قد وقعنا بشرك سلطة الاحتلال الإسرائيلي. والأهم من كل ذلك أن لا نكتفي بالوقوف مع القدس وأهلها بالكلام والبيانات والتصريحات المزايدة، بل أن نقف معهم ونقدم لهم الدعم المعنوي والسياسي والمادي وبطريقة منسقة بين الجميع، وأن لا يحاول فصيل خطف انتفاضة القدس وحرفها عن طابعها الوطني، أو أن يحاول تحقيق مكاسب تنظيمية ضيقة. إنها القدس حذار من العبث بها.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها