روى لي صديقي وتربي يحيى أنّه كان في شبابه ينهض مبكّرًا كي يسبق أخاه في ارتداء البنطال الجديد الوحيد الّذي تشاركا في ثمنه الذّي دفعاه للخيّاط، فتذّكرت أنّني كنت أملك في تلك الأيام قميصين وبنطالين لا غير أرتدي أحدهما يوميًّا فيما أوفّر الثّاني للمناسبات أو كما كنّا نقول "لروحه لجينه"، كما كنت أملك حذاءً واحدًا أنتعله صيفًا وشتاءً وأزور "عيادة" الاسكافيّ عدّة مرّات في العام في كفر ياسيف أو شفاعمرو أو الناصرة لتصليحه وترميمه، ولا غضاضة إذا ما اعترفت بأنّ زوجتي كانت تملك فستانين اثنين متواضعين أيضًا مكتفية بهما. وكنّا نحرص على سلامة ملابسنا وأحذيتنا مثلما نحرص على سلامة أجسامنا. وقد سمعت مرّة رجلًا ميسورًا من عائلة معروفة يقول لجليسه بخبثٍ "إذا تشاجرت مع رجلٍ فقير أو متوسّط الحال فلا تضربه بل مزّق قميصه"!
لا أرغب بأن أبكي وأبكيكم على أيّام القلّة التي عشناها في سنوات منتصف القرن الماضي وخلقت جيلًا قنوعًا صامدًا نشيطًا، درس وتعلّم وبنى بيوتًا وأنجب أولادًا ربّاهم على العزّة والكرامة، ولا بأس إن قلت إننا كنّا نختصر ونوّفر من لقمة العيش كي يحظى أولادنا بالالتحاق بالمدارس الثانويّة وبالجامعات أو نبني لهم بيتًا صغيرًا.
هكذا عشنا قنوعين صامدين وعيوننا ترنو إلى الغد الجميل الأفضل.
في سنوات خلون، ليست بعيدة، لم تشترِ أم محمود سبع فساتين كي ترتديها في سهرات زفاف ابنتها زهرة، ولم تحلم ابنتي بارتداء فستان ثمنه آلاف الشواقل في حفلة تخرّجها من المدرسة الثانوية أو كليّة التمريض، ولم يطلب ابني بذلة من ثلاث قطع لحفل تخرّجه، ولم أهدِ ابنًا أو ابنة أو حفيدًا أو حفيدة في عيد ميلاده قطعة ذهبيّة ولو من عيار خفيف.
روى لي أحد أحفادي أن صديقه اشترى حذاءً بألف شيقل وزيادة فلّما شاهد أبوه الحذاء وعلم ثمنه قال ساخرًا بألمٍ: "هذا حذاء يمشي وحده.." وأخذ يغنّي "غندره مشي العرايس غندره!".
هذا التّبذير الّذي نعيشه في هذه الأيّام في الملابس الثّمينة الّتي تُرتَدى ليومٍ واحد أو سهرةٍ واحدة وتُهمل أو في الأحذية الغاليّة الّتي تلائم الفستان أو البنطال وتُنسى في الخزانة حتّى تمتلئ ونتخلّص منها دليلٌ على الطيش الهائل غير العقلاني الذّي لا يفقه فاعلوه الآية الكريمة الّتي تطالبنا بألّا نبسط اليد كلّ البسط.
نحن نبذّر كثيرًا في مناسباتنا وملابسنا وطعامنا وهدايانا وفي أشياء عديدة....
معاذ الله أن أدعوكم إلى التقشّف فأنا أحبّ الحياة مثلكم ولكنّني أقول: حرامٌ ما تبذّرونه يا ناس!!
جاء في أمثالنا: إن كنت على باب بير بدّك تدبير. وجاء أيضًا: القرش الأبيض لليوم الأسود.
فكّروا بالأيّام القادمة واستغلّوا أموالكم بما ينفعكم وينفع المجتمع.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها