افتتاحية مجلة القدس العدد 341 ايلول 2017

بقلم: الحاج رفعت شناعة

جاء خطاب الرئيس محمود عبّاس أمام الأمم المتحدة في الدورة الثانية والسبعين ‏مدروساً وموضوعيًّا، وتميَّز بالحزم والجدية، ووضعَ الأطراف الدولية والإقليمية كافّةً، ‏وتحديدًا العربية، أمام مسؤولياتهم التاريخية تجاه القضية الفلسطينية، والصراع ضدَّ ‏الاحتلال الإسرائيلي، هذا الاحتلال الذي لم يكن في أيِّ وقت مضى، ولا الآن، ولا ‏مستقبلاً، إسرائيلياً فقط، وإنَّما يرتكز في عدوانه المتواصل على نفوذ الحركة الصهيونية ‏العالمية، وعلى الدعم المتواصل عسكرياً، وسياسياً، واقتصادياً، وأمنياً، وإعلامياً من ‏الولايات المتحدة الحليف الاستراتيجي، والداعم للوجود الاحتلالي الإسرائيلي ظالماً أو ‏مظلوماً على الطريقة الصهيونية.‏
وأهميّة الخطاب التاريخي أنَّه سمَّى الأمور بأسمائها من دون تردُّد، فقد طفح الكيل، ونفدَ ‏صبر الشعب الفلسطيني جرّاء انهيار القِيَم الأخلاقية، والقانونية، والحقوقية لدى ‏مختلف الأطراف المعنية بإيجاد الحلول السياسية العادلة، لمأساة الشعب الفلسطيني ‏التي مضى عليها قرابة السبعين عاماً.
فالشعب الفلسطيني يتلوّى ألماً، وتشرُّداً، ‏وقَهراً، وإحباطاً، وغربةً عن الوطن، فهو الشعب الوحيد الذي لا يحقّ لأبنائه المنكوبين ‏في أرجاء العالم أن يعيشوا في وطنهم، وأن يُكحِّلوا عيونهم برؤية جباله، وسهوله، ‏وأنهاره، ومقدّساته، وآثاره.‏
وللأسف، فإنَّ عالماً يتكوَّن من مئة وثلاث وتسعين دولةً يحكمهم، ويتحكَّم بمصيرهم ‏الفيتو الأميركي، بل الڤيتو الإسرائيلي بطريقة غير مباشرة. فالكيان الإسرائيلي وليد ‏الانصهار الصهيوني الإمبريالي الكامل أصبح اليوم يفرض شروطه، ومصالحه، ‏واستعماره على الأراضي الفلسطينية بقوّة السلاح والهيمنة.‏
فالعالم اليوم بمؤسّساته الشرعية يعجز عن فرض قراراته السياسية المتعلِّقة بالقضية ‏الفلسطينية، رغم دعم شعوب العالم ودوله المتعاطفة مع الشعوب الفقيرة وتطلّعاتها. ‏فما زال الكيان الصهيوني وبدعم أميركي واضح ومستمر يفرض رؤيته السياسية ‏القائمة على:‏
‏- رفض الاعتراف بوجود الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من حزيران العام 1967، ‏رغم أنَّ الاعتراف قرار دولي مُلزِم لكافة الأطراف.‏
‏- يصرُّ هذا الكيان العنصري أنَّ القدس هي العاصمة الأبدية لدولة الاحتلال. علماً ‏أنَّ القدس هي جزءٌ من الأراضي المحتلة العام 1967، وهي عاصمة دولة فلسطين. ‏وهذا ما تؤكِّده الحقائق التاريخية وقرارات الشرعية الدولية كافّةً.‏
‏- يصرُّ الاحتلال الإسرائيلي، وبدعم كامل من الولايات المتحدة، على مواصلة الاستعمار ‏والاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة، واعتباره شرعياً، وأنَّه من حقّه، ولا يقبل ‏بوقفه إطلاقاً، علماً أنَّ القرارات الدولية بكاملها تُدين الاستيطان، وتُطالب بوقفه لأنَّه ‏عدوان على دولة فلسطين المُعترَف بها دولةً تحت الاحتلال.‏
‏- يرفض الكيان الإسرائيلي تنفيذ مضمون اتفاق أوسلو الذي تمَّ التوقيع عليه من قِبَل ‏الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، والأطراف الدولية، فهي تُعارض الإرادة الدولية ‏الساعية إلى إنهاء الاحتلال، وتصرُّ على تكريس وجودها على الأراضي الفلسطينية.‏
‏- الاحتلال الإسرائيلي يحاصر الشعب الفلسطيني سواء في الضفة الغربية، أو في ‏قطاع غزة، ويتحكَّم بكل منافذ حياته، ويبطش بأبنائه، ويُدمِّر بيوتهم، ويعتقل شبابنا ‏ونساءَنا، ويدخلهم في أتون التعذيب، والتدمير النفسي، والمعاناة الأُسَرية الطويلة ‏والشاقّة، من أجل سحق إرادتنا، ودفعنا للتراجع عن حقوقنا التاريخية.‏
‏- رغم الموافقة الفلسطينية على إقامة الدولة الفلسطينية على الأراضي المحتلة العام ‏‏1967، والقبول بالاعتراف المتبادَل، إلاَّ أنَّ الاحتلال يتجاهل ذلك كلّه، ويصرُّ على ‏تكريس ما يخدم تطلّعاته في الهيمنة، والنفوذ، والاستعمار، وهذا ما جعلها ترفض قرارات الشرعية الدولية كافّةً، وترفض أيضاً المبادرات الدولية والإقليمية لحلِّ قضية ‏الصراع القائمة على الأرض الفلسطينية، وخاصّةً المبادرة العربية للسلام التي تمكَّنَ ‏الاحتلال من تجويفها من مضمونها، وفرض تطبيع العلاقات معها أولاً وقبل كلِّ شيء.‏
ما سبق ذكره يقودنا لتأكيد القضايا الجوهرية التالية:‏
أولاً: إنَّ المطلوب من الأمم المتحدة أن ترتقي إلى مستوى الأمانة التاريخية المطلوبة ‏منها، والتي طالبَ بها سيادة الرئيس أبو مازن، لأنَّ شعبنا لن يغفر للمؤسسة الدولية ‏التي أخذت قرار التقسيم العام 1947، وقدَّمت الجزء الأكبر من أرضنا التاريخية ‏هديةً للحركة الصهيونية، لتُقيم عليها ما يُسمَّى (دولة إسرائيل) العنصرية، ومنعت ‏شعبنا من الاستقرار على أرضه المقرَّر أن تكون دولته الفلسطينية المستقلة، ثُمَّ ‏عاد الكيان الإسرائيلي ليحتلَّ ما تبقَّى من الأراضي الفلسطينية العام 1967، ثُمَّ يصرُّ ‏على تعطيل كافّة القرارات الدولية الخاصّة بالقضية الفلسطينية من أجل إدامة ‏الاحتلال والاستعمار، ومنع اللاجئين من العودة إلى أرضهم التاريخية استناداً إلى ‏القرار 194. فهل ستبقى الأُمم المتحدة ومجلس أمنها تحت السيطرة الكاملة للولايات ‏المتحدة وحليفتها (إسرائيل)، وبالتالي تذويب الشعب الفلسطيني، وتصفية قضيّته ‏الوطنية.‏
إنَّ الشعب الفلسطيني لن يصمت طويلاً على هذا الواقع المؤلم، وهو لم يفقد زمام ‏المبادرة، لأنَّه قادرٌ على حماية حقوقه، ولديه القدرة على إبداع الوسائل والأساليب ‏والبرامج التي تُعيد الأمور إلى نصابها، ولكنَّنا نُذكِّر هذا الواقع الدولي الجائر بما قاله ‏سيادة الرئيس أبو مازن: "إنهاء الاحتلال لأرضنا هو ضرورة وأساس في مواجهة ‏التنظيمات الإرهابية، إذا كنتُم حقًّا تريدون الحرب على الإرهاب، فمنبع الإرهاب هو ‏الكيان الإسرائيلي العنصري"‎.‎
ثانياً: على الشعب الفلسطيني بكلِّ فصائله، وقواه، وشرائحه أن يكون على أهبّة ‏الاستعداد، وأن يجسِّد المصالحة عمَلياً من خلال خطواتٍ موحَّدة، وعقلية منفتحة، ‏وإصرار جماعي على طيِّ صفحة الماضي، وتذليل كافة الصعوبات وما أكثرها، وما ‏أعقدها، ولكن عندما تتوافر الإرادة الوطنية الفلسطينية، وعندما تكون القدس هي ‏بوصلتنا، نستطيع تذويب خلافاتنا المتراكمة، ورصَّ صفوفنا، وكسر الحصار الظالم ‏من خلال الوزارات الموحَّدة التي تُسيِّرها خطة واحدة، وكما أكَّد الرئيس محمود عبّاس ‏بأنَّ ما هو حاصل "يفرض علينا مراجعة استراتيجية شاملة‎".
ولكي نُوحِّد الرؤيةَ الوطنية، فإنَّ ما يجري من تطورات سياسية تؤكِّد بما لا يترك مجالاً ‏للشك، بأنَّ العدو الإسرائيلي مُصرٌّ على تجاوز القرارات والتفاهمات المقترحة كافّةً، ‏وحتى الموقَّع عليها مع الجانب الفلسطيني، وهي غير معنية إطلاقاً ببناء أي نوع من ‏الشراكة، أو التوصُّل إلى أي نوع من الحلول الدائمة، فهو كما قُلنا يعتبر الأراضي ‏الفلسطينية التاريخية أرضَهُ، وأنَّ القدس عاصمته، وأنَّ الاستيطان مُشرَّعٌ لهُ، وأنَّ ‏"إسرائيل" ذاهبةٌ باتجاه دولة يهودية قوميةٍ ليهود العالم، والترحيل ينتظر الآخرين من ‏العرب. وما يُعزِّز هذه القناعات السياسية لديها هو بداية انهيار الجسم العربي ‏القومي بعد اختراقه بالتطبيع‎.‎
ثالثاً: إنَّ التجارب الميدانية التي شهدتها ساحات الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي أكَّدت تفوُّقَ الجانب الفلسطيني، وقدرتَه على حسم الموقف رغم قلّة الإمكانيات ‏العسكرية والاقتصادية‎.‎
فرغم الظروف الصعبة التي أحاطت بهذه المواجهات، وهذا ما حصل في الانتفاضة ‏الأولى في 9/12/1987، ولمدة ست سنوات، حيثُ استطعنا عزلَ الجانب الإسرائيلي ‏دولياً، وبالمقابل حقَّقت الانتفاضة الفلسطينية انتصاراً وطنياً، وثورياً، وإعلامياً أذهل ‏الجميع، وأبرز ما أفرزتهُ هذه الاشتباكات اليومية هو تفوُّق العنصر البشري ‏الفلسطيني في الصراع ضد الاحتلال، وإذا أردنا أن نستكمل الصورة فنحن مُضطّرون ‏للإشارة إلى ما حدث يوم الأرض العام 30/3/1976، وما حصل يوم هبّة النفق ‏عندما قام الصهاينة بحفر نفق تحت المسجد الأقصى، وهذا ما أسفر عن هبَّة جريئة ‏قادها رجال الأمن الوطني الفلسطيني بسلاحهم، وقدَّموا ستة وسبعين شهيداً، وذلك في ‏العام 1996، لكنهم شكَّلوا صدمة قاسية للاحتلال. ولن ننسى انتفاضة شعبنا ‏الشاملة في 28/9/2000، عندما دنَّس شارون وجنوده باحات المسجد الأقصى، ‏فانتفض شبابنا ومُصَلونا في المسجد بوجهه، وكانت الشرارة التي أشعلت الحريق ‏بوجه الاحتلال، والذي تواصل جمرُ ثورته وانتفاضته على مدى أربع سنوات، ليُقدِّم ‏شعبنا ما يقارب خمسة آلاف شهيد من دون ملل أول كلل، وهذه جميعها أدلةٌ واضحة ‏على خوض الصراع المطلوب مهما كان شكله أو نوعه، فهو يمتلك القدرة، والطاقة، ‏والخبرات الميدانية، وقادر على تلقين العدو دروساً قاسية، لأنَّ للأرض رجالاً قادرون ‏على حمايتها والدفاع عن مقدَّساتها.‏
رابعاً: لا بدَّ في هذا المجال أن نُفرِد مساحة خاصة بما هو مطلوب من حركة "فتح" التي ‏فجَّرت الثورة، وتُشكِّل العمود الفقري للثورة الفلسطينية، فكلَّما كان هذا العمود صلباً ‏متماسكاً يكون جسد الثورة بخير، وقادرًا على مواصلة المسيرة. وانطلاقاً من هذا ‏المفهوم، بل هذه القاعدة الوطنية، فإنَّه غير مسموح لتنظيم هذه الحركة، ولا لأبنائها ‏التراخي أوالتردُّد في حمل الأمانة الوطنية، مهما كانت الصعوبات، كما أنَّه غير ‏مسموح لأبناء هذه الحركة التخلّي عن الأولويات، أو إغماض العين عن الواجبات، أو ‏التردُّد في حمل الأمانات، أو القبول بالمواقف الـمُذِلّة والتي تجرُّ الخيبات، أو مخالفة ‏منهجية الثورة، وأخلاقيات الوزير، وصيدم، وصايل، وعدوان، وفيصل الحسيني، والرمز ‏ياسر عرفات، أو التمرُّد على فكرة الثورة، والعقول التي أنتجت للشعب والوطن نظريةً ‏أينعت مشروعاً وطنياً، ونظرية وطنية على يدي خالد الحسن، وأبو يوسف، وصخر ‏حبش وماجد أبو شرار. وعلى أبناء هذه الحركة حتى يحافظوا على الأسرار ‏والأمانات، وحتى لا تُفتَح الأبوابُ والنوافذ أمام الحاقدين، والحاسدين، والمتربِّصين، ‏والمتآمرين علينا، أن نتذكَّر دائماً صلاح خلف، وأبو الهول، وأبو المنذر، وهاني ‏الحسن‎.‎
أبناء هذه الحركة، واجبكم أن لا تنسوا أنَّكم أنتم أصحاب المشروع الوطني منذ ‏البداية، حيث أبو علي إياد، وعبدالفتاح حمود، وحتى يوم النَّصر المؤزَّر ستبقى ‏قيادة هذه الحركة، وفي مقدّمتها الرئيس أبو مازن تسهر على استمرار هذه المسيرة ‏الثورية‎.‎
مع أهمية الذكريات والأمجاد الماضية، إلاَّ أنَّ بيضة القبَّان -كما يقولون- هُم القواعد ‏الحركية على اختلافها، وخاصة البنية التنظيمية، وسلامة العضوية فيها، وجاهزية ‏الكادر، والضابط، والعضو في مواجهة أي محاولة لإضعاف وإرباك الحركة، أو شطب ‏دورها المركزي، أو التهاون والتردد في الدفاع عن القضية الوطنية الفلسطينية، أو ‏العجز عن رفع مستوى الوعي التنظيمي، والأمني، والسياسي، والاجتماعي عند ‏الأُطر، أو الصمت على العيوب القاتلة التي تصيب الجسم التنظيمي، والحركي، ‏والوطني، وإسقاط مبدأ المحاسبة. فهذه الأمور بمجملها عندما لا تجد حلّاً أو معالجةً ‏جادّةً لها، تضعفُ الأُطر الحركية، وتفقدُ القدرة على القيام بالدور المطلوب، من أجل ‏مواكبة معطيات خطاب الرئيس أبو مازن، والتوجُّهات الحاسمة والصارمة، وأخذ ‏المبادرة في الدفاع عن حقوقنا الوطنية المشروعة، والصمود بوجه التحديات ‏المصيرية، وبالتالي القدرة على الانخراط الواعي في الصراع الميداني ضدَّ الاحتلال ‏الإسرائيلي، والاستجابة للاستراتيجية الوطنية الكفيلة بالدفاع عن حقوقنا وثوابتنا، ‏وتجنيد طاقات شعبنا في معركة تقرير المصير.‏