لفت نظري استنتاج هام للبرفسور الإسرائيلي آسا كاشير (84 عامًا)، الذي عمل أستاذًا للفلسفة في جامعة تل أبيب، ويُعد أحد علماء اللسانيات المعروفين عالميًا، وله العديد من المؤلفات في علم اللسانيات والفلسفة والمنطق والأخلاق. كما ترأس العديد من اللجان العامة المهمة، وكان وما زال يحتل مكانًا في عضوية عددٍ من اللجان العامة، أضف إلى أنه يُعرف بمفتي الأخلاق الأعلى في إسرائيل. ويُعتبر وفق المعايير الإسرائيلية "فيلسوفًا" و"المنظر الأكبر، للمنظومة القيمية والسلوكية للجيش الإسرائيلي"، والمعيار الأخير يعكس مكانة وأهمية وثقل الرجل في المؤسسات الفكرية السياسية والأمنية والقيمية الأخلاقية، التي تنضح منها دولة إسرائيل اللقيطة نهجها وسلوكياتها العدوانية الإجرامية.
هذا الفيلسوف هو واضع ركائز المنظومة القيمية والأخلاقية الإسرائيلية، التقته صحيفة "هآرتس" في مقابلة مطولة نشرت في 25 شباط/فبراير الماضي في محاولة منها لسبر أغوار الرجل، والوقوف على رأيه وقراءته للتطورات الإسرائيلية بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، وكيف يقيم واقع المنظومة الأمنية والعسكرية والسياسية الإسرائيلية، وأقتبس هنا بعض ما أورده الكاتب والباحث السياسي أنطوان شلحت، المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) عن المقابلة المنشورة في 10 آذار/مارس الحالي بعنوان "عن اعترافات آسا كاشير: قيادة إسرائيل باتت في أيدي عصابة تريد فرض ترهيبها على الجميع"، أكد (كاشير) فيها أن الممارسات التي يقوم الجيش الإسرائيلي بارتكابها في مجرى الحرب التي يشنها على قطاع غزة مروعة ورهيبة، رغم أنه لا يعتبرها تصل إلى درجة جرائم الحرب وإبادة شعب، ومع ذلك شدد أبو القيم ومفتي الأخلاق الصهيونية، أن الحرب على غزة تعكس التغيير في الجو الإسرائيلي العام، حيث باتت هناك منظومة في إسرائيل تعمل مثل عصابة إجرام مكلفة بقيادة حي سكني. وهذه المنظومة لا تتردد في اتخاذ أي وسيلة من أجل خدمة قادة العصابة، والذين هم قيادة إسرائيل في الوقت الحالي. ويتابع الفيلسوف في قراءته بؤس الواقع الإسرائيلي والمآل العبثي واللا أخلاقي والإجرامي الذي بلغه البناء الفوقي المتمثل بالعصابة الممسكة بمقاليد الأمور في إسرائيل، فيقول: تتمثل إحدى الطرق في تصنيف أي موضوع في العالم في خانة اليمين أو اليسار، خانة نحن وهم: "نحن اليمين الوطني اليميني في سدة الحكم، وهم اليسار الخونة المعادون للصهيونية". ويستنتج أن هذا التصرف لا يصدر عن قيادة دولة، إنما عن قيادة عصابة تريد فرض ترهيبها على الحي السكني الذي تقوده. وهذا السلوك العصابي ينطبق على كل شيء بما في ذلك على المحكمة الإسرائيلية العليا.

والأهم مما ورد في استنتاجات المفكر الإسرائيلي، هو ما خلص له بالقول: "أحيانًا اسأل نفسي، ربما الأمر أكبر منا؟ ربما فكرة دولة مستقلة كبيرة على "الشعب" اليهودي؟ فلقد كان شعبًا لأعوام عديدة يعيش في عقلية أقلية، وسمح لنفسه بفعل كل شيء من أجل البقاء على قيد الحياة. وربما بقينا مخادعين وكذابين لا يمكن الوثوق بكلمتهم. ولقد أقمنا في الآونة الأخيرة حكومة مع مثل هذه الأصناف من البشر (يقصد العصابة الحاكمة) ورئيس حكومتنا شخص كاذب لا يمكن الوثوق بأي كلمة يقولها، وبأي عهد يتعهد به. لقد وصلنا إلى أماكن فظيعة، وربما فكرة الدولة أكبر منا فعلاً".
وعلى أهمية استنتاجه الاستراتيجي، الذي كشف فيه عن خواء وإفلاس دولة المرتزقة الصهيونية، والإقرار بأن اليهود الصهاينة ليسوا أهلاً لتولي إدارة دولة، ولكنه لم يربط بين النتيجة الهامة التي وصل لها، وبين الأسس التي أقيمت عليها الدولة الإسرائيلية، باعتبارها أداة استعمارية في خدمة المشروع الرأسمالي الذي وفر لها الحاضنة السياسية والقانونية والاقتصادية والاجتماعية من خلال الهجرات المنظمة والمكرسة لوجودها من مختلف بقاع الأرض، والذي لم يُقم هذه الدولة العصابة تضامنًا وحبًا باتباع الديانة اليهودية، إنما تخلصًا من أخطارهم في مجتمعاتهم الأصلانية، ولاستخدامهم في خدمة مصالح الغرب الكولونيالي. وزج بمئات الآلاف من أثنيات مختلفة من اتباع الديانة اليهودية ألبستهم الصهيونية بثوبها الفكري السياسي العنصري الرجعي، ووظفتهم في خدمة سادتها من أباطرة رأس المال الصناعي والحربي والرقمي. وأيضًا لعدم تمكن الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة على مدار نحو ثمانية عقود من جسر الهوة بين الأثنيات والهويات الفسيفسائية، وصقلها في بناء تحتي متجانس نسبيًا، مما عمق التناقضات بينها، ولم يخفض من حدتها، حيث لم يتمكنوا يهود إسرائيل الصهاينة من تعريف من هو اليهودي حتى الآن. 

فضلاً عن أن الطابع النفعي التجاري والربوي المتأصل بين اتباع الديانة اليهودية تاريخيًا، كان هو الدافع الأساس للهجرة لمن جاء غازيًا لفلسطين وأرضها وناهبًا لمصالح وحقوق شعبها، ومدعومًا من الولايات المتحدة وعموم دول الغرب الإمبريالي، ولم يكن الانتماء الروحي، أو "الحقوق" اليهودية التي لا أساس لها في الواقع، هي الأساس بلجوئهم لفلسطين العربية. كما أن كاشير لم يربط بين إفلاس الدولة، وفشل النخب الصهيونية في بناء دولة، وبين منظومته الأخلاقية التعسفية والاستعلائية والنافية لحقوق الشعب الأصلاني، صاحب الأرض والتاريخ والهوية الوطنية، وقيام الدولة على فكرة الاغتصاب لحقوق شعب آخر، ونهب أرضه وثرواته وهويته، هو ما شكل أحد عوامل صعود التيارات الدينية الصهيونية العصابية لسدة الحكم، بعد سقوط وفشل صهاينة الخزر من وضع أساس علمي حقيقي بعيدًا عن الدين وتداعياته. لأن الخلط المقصود من قادة الحركة الصهيونية بين الديني والسياسي هدفه تعميم مشروعهم في أوساط أتباع الديانة اليهودية، مما أدى في سياق صيرورة التطور إلى الاصطدام بالواقع، حيث تبين خزعبلات وبؤس الأساطير الدينية، وافتضاح عملية التزوير الكبرى للصهيونية التي قامت على نفي الشعب الآخر الفلسطيني، والذي عكسه شعارها المركزي "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض"، حيث ما زال الشعب الفلسطيني بموروثه الحضاري والتاريخي متجذرًا بالتراب الوطني، وفي ظل عدم الانتماء في أوساط اليهود الصهاينة للدولة الخارجة على القانون، وغيرها من الأزمات والتناقضات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية والقضائية والسيكولوجية، وتصادم الثقافات بين أتباع الأثنيات الفسيفسائية، كل هذا عكس الحقيقة، التي تؤكد، أن اليهود الصهاينة ليسوا أهلاً لإقامة دولة، ولن يقووا على الصمود أمام التحديات الداخلية العميقة بين مكوناتها، ولم تعد تنفعها عمليات اللجوء لفتح أبواب الحروب ضد الفلسطينيين والأشقاء العرب وغيرهم، حتى لو طبع معهم كل زعماء العرب، فلن يتمكنوا من تعزيز مكانة دولتهم الطارئة، وبالنتيجة، من لا جذور له، لا تاريخ له، ولا بقاء له في الجغرافيا الجيوسياسية.