بقلم: وعد الكار

تعيش محافظة بيت لحم، بمديتنها وقراها حصارًا من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، التي تفرض إغلاقا على مداخل المحافظة، وإغلاقًا بين بلداتها وقراها، الأمر الذي يزيد معاناة المواطنين خصوصًا في شهر رمضان المبارك.

- الخضر.. رمضان بلا روح واقتحامات تطفئ النور

كانت بلدة الخضر جنوب بيت لحم خلال السنوات الماضية تنبض بالحياة خلال شهر رمضان المبارك، لكن لياليها تتحول اليوم إلى كابوس مستمر.

قبل أعوام، كانت الأسواق تكتظ بالمتسوقين، وتفوح منها رائحة الكنافة الساخنة، وأصوات الأطفال تتعالى فرحًا بألعابهم الجديدة. لكن هذا العام، شيء ما تغيّر، فالمحلات تُغلق مبكرًا، والشوارع تغرق في صمت مخيف، والناس يهربون من الغازات السامة بدلًا من أن يسهروا على أبواب متاجرهم.

منذ بدء شهر رمضان، باتت اقتحامات الاحتلال الليلية جزءًا من روتين البلدة، إذ تبدأ بعد الإفطار، حينما يتوقع الناس أن يجدوا لحظات من الراحة، لكنهم بدلاً من ذلك يواجهون أصوات القنابل وأضواء مركبات الاحتلال العسكرية التي تمزق سكون الليل.

أبو يوسف أبو غليون، سائق شاحنة أثاث من الخضر، يتحدث بحسرة عن الحال الذي وصلوا إليه: "رمضان كان له طعم خاص، لكن الآن، لم نعد نشعر به. بعد الإفطار مباشرة، نسمع صوت الاقتحامات، ونستنشق رائحة الغاز، ونرى التجار يفرون من محلاتهم خشية الرصاص وقنابل الغاز التي تلقيها الطائرات المسيرة داخل المتاجر. لم نعد نعرف معنى الأمان حتى في أكثر الشهور روحانية".

البلدة التي كانت تضج بالحياة أصبحت اليوم مهجورة بعد صلاة التراويح، فمحلاتها مغلقة، وأهلها محاصرون بين الخوف من الاقتحامات والخسائر الاقتصادية التي أرهقتهم.

- بيت فجار.. إغلاق خانق وطريق وعر

 أما جنوبًا، حيث بلدة بيت فجار، فالمعاناة مختلفة لكنها لا تقل قسوة. فمنذ أكثر من 16 شهرًا، لم يُفتح أي من مداخل البلدة، فأصبح المواطنون محاصرين داخلها.

للوصول إلى بيت لحم أو أي منطقة أخرى، يُضطر السكان إلى سلك طريق ترابية وعرة عبر قرية المنشية، وهو طريق لا يصلح لعبور آلاف السيارات يوميًا. هذا الطريق لم يكن مهيأً للحركة الكثيفة، لكنه تحول إلى المنفذ الوحيد للناس، الذين يجدون أنفسهم مجبرين على قطع مسافات أطول، وإنفاق أموال أكثر على الوقود وإصلاح سياراتهم التي تتعرض للأعطال بسبب وعورة الطريق.

يقول أحد السائقين: "لم يكن يومًا بهذه الصعوبة"، قبل أن يضيف: "كل يوم، نخوض مغامرة مرهقة عبر هذا الطريق، لا نعلم إن كنا سنصل في الوقت المناسب، أو إن كانت سياراتنا ستتحمل المزيد. كل شيء بات مكلفًا أكثر: السفر، العمل، وحتى الحياة نفسها".

- المنشية وجورة الشمعة.. حصار البوابات الحديدية

في قرى المنشية، وجورة الشمعة، ومراح رباح، وأم سلمونة، يعاني الناس معاناة مشابهة، إغلاقًا متكررًا للبوابات الحديدية التي تعزلهم عن محيطهم، في مشهد يُعيد إلى الأذهان الحياة داخل سجن محكم الإغلاق.

تصف أم أشرف عيد، إحدى سيدات جورة الشمعة، الشعور الذي يعيشه المواطنون كل ليلة عندما يغلق الاحتلال البوابات الساعة الثامنة مساءً: "عندما تُغلق البوابات، نشعر أن الحياة توقفت. أي شخص خارج القرية وقت الإغلاق عليه أن ينتظر حتى الصباح ليعود. ولو احتاج أحد إلى المستشفى ليلاً، فلن يكون أمامه خيار سوى الانتظار، حتى لو كان في خطر".

وتتابع بحزن: "نحن لا نعيش حياة طبيعية، فنحن في سجن كبير، والفرق الوحيد أن بيوتنا هي الزنازين، والطريق إلى العمل أو المدرسة هو رحلة انتظار لا تنتهي".

الإغلاق لا يعني فقط العزلة، لكنه يعني التأخر عن المدارس، وخسارة ساعات العمل، ومضاعفة تكاليف النقل، والعيش تحت ضغط دائم لا يُعرف متى ينتهي.

- الجبعة.. عزلة قسرية واعتداءات متواصلة

وفي الجهة الغربية للمحافظة، تعيش قرية الجبعة تحت حصار مشدد، حيث يعاني مواطنوها البالغ عددهم نحو 1300 نسمة إغلاقا شبه دائم لمدخلها الوحيد، خاصة يومي الجمعة والسبت، وحتى عندما يُسمح بالدخول أو الخروج، فالأمر مشروط بتنسيق مسبق، وبشرط أن يُثبت المواطن في بطاقة هويته أنه من سكان القرية.

ويصف رئيس المجلس القروي في الجبعة ذياب مشاعلة، الوضع بقوله: "نحن محاصرون من جميع الجهات، فنشعر أننا معزولون عن العالم. الاحتلال يغلق المدخل يومي الجمعة والسبت، وإن احتجنا إلى الخروج، فعلينا التنسيق المسبق. وحتى إن حصلنا على الإذن، فسنتعرض لتفتيش دقيق، وكأننا ندخل منطقة عسكرية لا بيوتنا".

لا يقتصر الأمر على الإغلاق، فالجبعة تعاني اعتداءات المستعمرين على أراضيها الزراعية، حيث يقطعون الأشجار ويسلبون الأراضي التي كان الأهالي يعتمدون عليها في رعي مواشيهم.

ويضيف مشاعلة: "كانت لدينا أراضٍ رعوية تمتد من واد فوكين إلى الجبعة، لكن الاحتلال شق طريقًا استعماريًا جديدًا التهم كل هذه الأراضي. اليوم، لم يعد لدينا أماكن للرعي، ولا مساحات زراعية كما كانت. فالاستعمار يبتلع حياتنا ببطء، ونحن نقف عاجزين أمامه".

- حياة يومية تحت الحصار

هذه القرى والبلدات ليست استثناءً، بل هي جزء من حياة يومية يعيشها الفلسطينيون في بيت لحم، حيث يُفرض عليهم الحصار دون سبب، ويُمنعون من التنقل بحرية، ويُجبرون على تحمل تكاليف مضاعفة للوصول إلى أبسط احتياجاتهم.

إغلاق الطرق، اضطرار الناس إلى سلك مسافات أطول، ارتفاع تكاليف المواصلات، خسائر اقتصادية للتجار، وحياة فقدت إيقاعها الطبيعي. هذه ليست مجرد تفاصيل، بل هي وجوه مختلفة لمعاناة واحدة، معاناة العيش تحت الاحتلال.

- "لم نعد نعرف معنى الحياة الطبيعية"

تقول أم أشرف عيد، في جملة تلخص كل شيء: "نحن لا نعرف متى سيفتحون الطرق، متى سيقتحمون بيوتنا، متى سيلقون الغاز على محلاتنا. حياتنا كلها أصبحت انتظارًا، انتظارًا لانتهاء الحصار، انتظاراً للحياة التي كانت، انتظارًا للحرية".