بقلم: وعد الكار

في لحظة تختصر سنوات من الوجع والفقدان، التقى المعتقل المحرر أمجد كامل طقاطقة (45 عامًا) من بلدة بيت فجار جنوب بيت لحم، بزوجته تغريد في مصر، بعد 23 عامًا قضاها خلف قضبان الاحتلال، ليكون هذا اللقاء الذي انتظرته القلوب طويلاً، مليئًا بالمشاعر المتدفقة، التي امتزجت فيها الدموع بالابتسامات، والحرية بالحرمان.

واعتقل الاحتلال طقاطقة في 16 نيسان/إبريل 2002، وحكم عليه بالسجن المؤبد 6 مرات و20 سنة، وتنسم عبير الحرية ضمن الدفعة السادسة من "اتفاق وقف إطلاق النار" في قطاع غزة، وأبعده الاحتلال إلى الخارج.

- رحلة الأسر الطويلة: "6 مؤبدات سرقت العمر"

عندما اعتُقل طقاطقة قبل 23 عامًا، كان أبًا لطفلتين صغيرتين، سماح التي لم تكن تتجاوز العامين، وأناهيد التي كانت رضيعة لا تتجاوز ثلاثة أشهر. لم يدرك حينها أن الاحتلال سيحكم عليه بـ6 مؤبدات، في زنزانة معزولة عن الحياة والعائلة.

يقول طقاطقة: "عندما دخلتُ السجن، كنتُ شابًا في العشرينيات، واليوم خرجتُ منه رجلاً يحمل في قلبه سنوات ثقيلة، لكنني رغم كل شيء، ما زلتُ أحتفظ بروحي التي لم تستطع الجدران كسرها".

طوال سنوات الاعتقال، عاش أمجد بين الأمل واليأس، بين انتظار الحرية التي تأخرت كثيرًا، وبين شوق ينهش قلبه لرؤية ابنتيه اللتين كبرتا وهو بعيد عنهما، وتزوجتا وأنجبتا دون أن يحظى بفرصة احتضانهما أو مشاركتهما لحظات حياتهما المهمة.

- اللقاء الأول بعد 23 عامًا: لحظة لا توصف

وفي أحد فنادق القاهرة، وقف أمجد مترقبًا، وفي الجهة الأخرى كانت زوجته تغريد تقترب منه، وهي التي انتظرته صابرة طوال هذه العقود. وعندما التقيا، اختفى المكان والزمان، وبقيت فقط لحظة العناق الطويل، إذ امتزجت الدموع بصوت القلب الذي عاد ينبض بعد سنوات من الانتظار.

تقول تغريد عن تلك اللحظة: "لم أصدق أنني أخيرًا سأراه بلا قيود، بلا سياج بيننا، بلا زجاج يفصلنا. كنتُ في كل زيارة للسجن أراه من خلف حاجز، وأحيانًا كان يُمنع من رؤيتي. أما الآن فقد احتضنته بعد سنوات من الحرمان، وهذا وحده يكفي ليعيد الحياة إلى قلبي".

لكن الفرحة لم تكتمل، فرغم الحرية التي حصل عليها أمجد، لم يتمكن من العودة إلى أرضه وبيته، بل تم إبعاده إلى مصر، ليعيش في منفاه بعيدًا عن ابنتيه وأحفاده الذين لم يرهم بعد.

يقول أمجد بصوت تختلط فيه السعادة بالحزن: "لم أستطع حتى الآن أن أحتضن ابنتيّ، لم أسمع ضحكات أحفادي، هذا الوجع لم ينتهِ بعد، ولكنني أواسي نفسي بأنني على الأقل أصبحتُ خارج السجن".

- بين الحرية والمنفى: ثمن باهظ للحياة

رغم أن الحرية هي الحلم الأكبر لكل معتقل، فإن أمجد ورفاقه الذين أُبعدوا إلى الخارج يدركون أنهم دفعوا ثمنًا آخر لهذه الحرية، وهو البقاء بعيدًا عن الوطن، بعيدًا عن الديار التي ناضلوا من أجلها.

تقول تغريد، التي عاشت كل هذه السنوات وحيدة مع ابنتيها: "كنتُ أمني نفسي بأن يعود إلينا يومًا، أن نجلس معًا في بيتنا الذي تركه منذ أكثر من عقدين، ولكنني اليوم أعيش فرحة مشوهة، لأننا لم نعد إلى بيتنا، بل التقينا في بلد آخر. ورغم ذلك، سأظل ممتنة لهذه اللحظة، فقد عانيتُ بما فيه الكفاية من الانتظار".

- رئيس نادي الأسير: "الوضع داخل السجون لا يطاق"

وحول أوضاع المعتقلين داخل سجون الاحتلال، يؤكد رئيس نادي الأسير الفلسطيني عبد الله زغاري، أن آلاف المعتقلين يعيشون ظروفًا صعبة وقاسية، في ظل إجراءات تعسفية ممنهجة تهدف إلى كسر إرادتهم.

ويقول: "لا يزال هناك أكثر من 10 آلاف معتقل في سجون الاحتلال، من بينهم 13 معتقلة يعانين أوضاعا صعبة، وسط إجراءات قمعية متزايدة. بعض المعتقلين أمضوا أكثر من 30 عامًا خلف القضبان، وأوضاعهم الصحية في تدهور مستمر".

وهذه المعطيات حول عدد المعتقلين لا تشمل معتقلي قطاع غزة كافة في المعسكرات التابعة لجيش الاحتلال، الذين اعتُقلوا خلال حرب الإبادة الإسرائيلية على القطاع منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023.

ويضيف زغاري: أن الاحتلال يواصل سياسات الإهمال الطبي، والعزل الانفرادي، ومنع الزيارات، وهي سياسات تهدف إلى زيادة الضغط النفسي على المعتقلين وعائلاتهم، مشددًا على ضرورة التحرك الدولي لإنهاء معاناتهم وإنقاذ حياتهم.

ونتيجة لسياسة الإهمال الطبي والقمع والتعذيب، فقد استُشهد 58 معتقلاً في سجون الاحتلال منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023.

- الحرية بطعم الفقدان: حينما تفتح السجون أبوابها متأخرًا

عندما خرج أمجد طقاطقة من سجنه، كان يحمل في ذاكرته وجوه رفاق رحلوا قبل أن يروا الشمس، وكان يحمل في قلبه شوقًا لأحبة لم يستطع أن يكون جزءًا من حياتهم كما تمنى. لكنه رغم كل شيء، يؤمن بأن الحرية، حتى لو جاءت متأخرة، تبقى أغلى ما يمكن أن يحصل عليه الإنسان.

"ما زلتُ أحلم بالعودة إلى فلسطين، باحتضان ابنتيّ، بضحكات أحفادي، وأؤمن بأن هذا اليوم سيأتي".

بهذه الكلمات، أنهى أمجد طقاطقة حديثه، وهو يحمل بين يديه مفتاحًا جديدًا لحياة ما بعد الأسر، حياة لا تخلو من الألم، لكنها على الأقل مليئة بالحرية.