خاص مجلة "القدس" العدد 328 تموز 2016
بقلم: محمد سرور

الإنقلابات في الدول لا يمكن أن تنتج إلا ديكتاتوريات، خاصة إذا كانت على أيدي العسكر. لذلك لا يمكن أن تستقيم أمور الدول وتعيس استقرارًا كاملا إلا من خلال البرلمانات والإحتكام إلى الى الديموقراطية.
في الحالة التركية هناك شبه إجماع على أزمة هوية عميقة ومزمنة، تتجلى كل فترة بانقلاب عسكري يُحمّل نفسه عنوان "الحفاظ على العلمانية" بنسختها الأصلية- أي الأتاتوركية.
هذه المرة هناك قطبة- أو قطب- مخفية يؤكدها مسار الأحداث التي حصلت وتواترت تباعًا منذ لحظة الإنتشار العسكري في شوارع المدن وساحاتها وحول المرافق العامة. لا يعقل أن يكون هناك انقلابًا على سلطة، وأركانها يتجوّلون ويصرّحون ويحثون جماهير حزب العدالة والتنمية على النزول إلى الشوارع للتعبير عن معارضتهم له.
ولا يمكن أن تكون الإجراءات التي اتخذها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وليدة اللحظة، خاصة تلك المتعلقة بإعادة جدولة وتشكيل الجيش والشرطة. أحد المسؤولين في الإتحاد الأوروبي اعتبر أن لوائح الإعتقال كانت جاهزة. يمعنى آخر: إن لم تكن السلطات التركية على علم مسبق بالإنقلاب ورموزه، فإن هذه السلطة كانت بصدد إنقلاب وقائي-  أو جذري، يحيّد العسكر إلى الأبد، أو على الأقل يبعد خطره إلى أمد بعيد.
اعتقال آلاف الضباط من جنرالاتٍ ورتب عالية، إلى أمثالهم من رتبٍ أدنى إلى اعتقال وعزل حكام وقضاة عسكريين ومدنيين، أمور تحتاج إلى أشهر- إن لم نقل إلى سنوات كي يتأكد المعنيين من محققين ورجال أمن وسياسة من مسؤولية هؤلاء جميعًا عن التآمر والمشاركة بالانقلاب.
حتى الإنقلابيين الذين شاركوا بالمهمة ومؤيديهم يعانون كغيرهم من أزمة الهوية. فالرفض الأوروبي حول تركيا بصورتها الراهنة لانضمامها إلى الاتحاد هو تعبير أن أحد أوجه الزمة. فتح مشكلة كبرى مع الاسرائيليين والروس، ثم إعادة العلاقات والذهاب إلى ما يشبه التحالف بينهم دليل واضح على الأزمة. إتهام الأوروبيين- الذين لم يدينوا الإنقلاب، بل ركزوا على مسألة عدم المساس بالديموقراطية والقانون اعتبر إشارة سلبية وإسهامًا لصالح الانقلابيين. وبقدر أكبر من الاتهام طال الادارة الأميركية، التي لم تدن الإنقلاب وتحفظت على تسليمهم الزعيم السلفي عبد الله غولن، بحجة طلب أساب موجبة ومقنعة لهم... وبالطبع لا يمكن أن ننسى وقوف الاميركيين إلى جانب عدوهم التاريخي- الكرد- في الصراع الدائر في كل من سوريا والعراق.
ألهذا المستوى من الاهمية وصل السيد غولن، أم أنه مجرّد شماعة علق عليها السيد أردوغان نواياه للتخلص من كل معارض لسلطانه في تركيا؟ لا يمكن أن يكون السيد غولد بهذا المستوى من الاهمية والقدرة على الفعل من منفاه البعيد- في بوسطن بالولايات المتحدة الاميركية.
ما هو دور 1043 مدرسة خاصة، و 1229 جمعية ومؤسسة خيرية، و 19 نقابة عمالية، و 15 جامعة و35 مؤسسة طبية؟ هل هي مؤسسات تابعة لعبد الله غولن أم هي مؤسسات تابعة لقوى معارضة تمت تصفيتها في اللحظة المناسبة؟
بعد الانقلاب لم يعد للمعارضة صوت وازن ولا باستطاعنها رفع الصوت حول تجاوز القوانين في تركيا. مما يعني أن الجيش الذي تمت إهانته بقوة من قبل الجماعات المؤيدة لأردوغان والحزب العدالة والتنمية، لم يعد حارس العلمانية  والديموقراطية. لقد تم تجريد- الذي لم تتوقف التصريحات حول خطر قيامه بانقلاب جديد، ولم يعد حارس الديموقراطية.. وفوق ذلك أصبح ضعيفًا على مستوى النخب ولا تسود الثقة بين مراجعه وتشكيلاته ويحتاج وقتا ليس قليلا كي يستعيد جزءًا من عافيته وبنيته الداخلية التي تتمتع بها الجيوش- رغم أنه كان أكبر جيوش أوروبا والرابع على صعيد الحلف الاطلسي والثامن على صعيد العالم.
إلى أين تتجه تركيا الآن؟ أية عقيدة عسكرية سوف يحمل جيشها؟
بداية لن تكون كما السابق مهرولة نحو أوروبا، كما لن يكون باستطاعتها اللعب في المنطقة كواحدة من أقوى وأكبر الرعاة الاقليميين لأزمات المنطقة واللاعبين في شؤونها الداخلية.    
على الاقل مرحليًا سوف تسعى الحكومة التركية إلى تقنين مشاكلها مع الخارج، لأن إعادة بناء الداخل ومعه تجفيف الاثار التي خلفها الانقلاب العسكري هي الاولوية الكبرى. يبدو أن علاقاتها بروسيا سوف تتطور نحو الاحسن- وهي ولو نسبيا- سوف تكون على حساب علاقاتها بالولايات المتحدة... فهل ستخرج- تركيا- من الحلف الاطلسي؟ هل سوف يقبلها الآخرون- الاوروبيون مثلا- في الحلف حتى لو طغى على الشكل الجديد للعقيدة العسكرية الطابع الاسلامي؟ ماذا عن علاقتها بطهران التي رفضت الانقلاب واعتبرت استقرار تركيا مهم لتركيا والمنطقة؟ سوف يكون لتركيا الجديدة علاقات مختلفة عن ما قبل الانقلاب... لكن مستوى الاختلاف لا يمكن التنبؤ به نظرًا لحجم وتسعب مصالح تركيا الاقليمية والدولية.
خلال عملية إعادة البناء سوف يتم- ولو بشكل موارب بناء عقيدة عسكرية جديدة للجيش تناسب وبشكل نموذجي سياسة حزب العدالة والتنمية وتمكنه من السيطرة عليه بشكل يضمن عدم حدوث انقلاب جديد يطيح بالسلطنة الاردوغانية. البناء الجديد هل سيكون متناغما مع حلم السلطان والسلطنة أم أنه ياخذ في الاعتبار دروه في الاطلسي؟
الحرب على الارهاب مهمة كبرى وشاقة، فأي المواقع سوف تختار تركيا الان؟ هل ستبقى راعية للارهابيين في كل من سوريا والعراق وممرا لهم إلى أروربا، أم سوف تأخذ مسارًا صداميًا معهم؟ لكل من الوجهين متطلباته وكلفته على صعيد هوية تركيا وسياستها التي سوف تتبلور وتتضح خلال الايام القادمة، خاصة لجهة كل من روسيا وإيران المعنيتان الرئيسيتان بهذه الحرب.
السيد خالد مشعل قال: لو نجح الانقلاب في تركيا لكانت القضية الفلسطينية اول الخاسرين. بالطبع لا نعرف لماذا وكيف، وبالتالي يبقى السرُّ لدى السيد مشعل وجماعته، لأن الأساس في علاقات تركيا الاقليمية هي إسرائيل وليس إمارة غزة. والعلاقة الاستراتيجية هي بين إسرائيل وتركيا وليس بين إمارة غزة وتركيا. فما هو الاساس الذي بنى عليه السيد مشعل خلاصته شديدة الثقة والوضوح؟
ما سبق يجعلنا نؤكد على حقيقة ساطعة وهي أزمة الحكم المعبّرة عن أزمة الهوية في العالم- وتركيا ضمنها بالطبع.
بعد خروج بريطانيا العظمى من الاتحاد الاوروبي، السيد ترامب المرشح الرسمي للحزب الجمهوري في الولايا المتحدة الاميركية الآن، هو يميني متطرف وعنصري ناقم من أهدافه تنقية المجتمع الاميركي من كل دخيل إسلامي. يقابله السيدة هيلاري كلينتون التي اعتبرت إدارتها مسؤولة عن انفلات الارهاب في الشرق الأوسط؟
في أوروبا هناك طغيان يميني وانحدار مجتمي بهذا الاتجاه تغذيه العمليات الارهابية التي تنفذها داعش واخواتها. فهل سوف تسكت أوروبا طويلا على تلك الاعمال أم أنها سوف تأخذ الاجراءات التي تراها مناسبة لامنها الاجتماعي والسياسي؟ تركيا بوّابة عبور الارهابيين إلى تركيا، فما هو شكل العلاقة المستقبلية التي سوف تبادر أوروبا إلى تصميمها وفق ما يناسب مصالحها الامنية؟ وأبعد مما سبق: ماذا ستكون علاقة أوروبا بإسرائيل على ضوء البعد الإسلاموي لمآسيها الامنية المتكررة- خاصة وأن ذلك يرسمه المزاج الجماهيري الآخذ مساره اليميني على حساب اية اعتبارات أخرى؟
تركيا ليست الاقليم، أي أنها ليست كيانا خاصا في منطقتنا وخاضعا لمعاييرها السياسية ونقطة على السطر. هي دولة متشعبة الاذرع  مفتوحة على أمم وثقافات ومصالح لا حصر لها. راسخة على الفاصل بين أوروبا وآسيا ومعنيّة بكل الشؤون المؤثرة والمهمة... لذلك لا يمكن أن يكون هناك قفزات في الهواء كما السابق، سوف تعتاد حكومتها التفريق بين ما تتمناه وما هو واقع... وآخر ما هو على اجندة اهتمامها الآن: فلسطين، بنسخة شعب فلسطين وشرعيتها. أما إمارة غزة- أمان ربي أمان... فسوف ينالها ما ينال الشعب الفلسطين من وكالة غوث وتشغيل اللاجئين... إنما بمفعول مؤقت.