خاص مجلة القدس/ تحقيق:غادة اسعد
سنواتٌ مرَّت اعتاد فيها المقدسيون اجتراع جراحهم ومواصلة الحياة، بما فيها من صعوباتٍ وتضييقاتٍ ومواجهاتٍ متكرِّرة، خاصةً مَع تعنُّت الإسرائيليين والمستوطنين منهم بالأخص لاقتحام المسجد الأقصى المبارك، وهو الخطُ الأحمر الذي لا يرضى به المُسلم، حيث يقوم المستوطِنون بالتباهي بدخولهم ساحات الأقصى، بل وأصبحوا يغنون ويرقصون ويشربون المنكر، أمام عيون المسلمين، وكأنما لا يعرف الآخر أنّ الدين هو الفاصلُ بين الحياةِ والموتِ في القدس.
وفي القدسِ ظروفٌ استثنائية، وحياة لا تُشبه حياة مواطنين في دولٍ أخرى، وكان أن جرّ هذا العام معه الكثير من الشهداء والويلات حتى وقف المقدسي العاجِز عن ممارسة حياته الطبيعية، ليرفع صوته ضد كل مَن يحرمه معنى الحياة الكريمة.
شلل كامل لمظاهر الحياة في القدس
عن واقع القدس يقول البروفيسور الإسرائيلي المحاضر في جامعة بار إيلان مناحيم كلاين: "لقد تغيّر الواقع في القدس، ولا يمكن العودة إلى الوضع السابق، وهُنا تظهر الحاجة لمؤسّسات وقيادة سياسية فلسطينية في القدس، ومن ثم ضرورة الانفصال بين المجموعتَين الإسرائيلية والفلسطينية". ويرى أنّه "لا يوجد حل أفضل من تقسيم القدس بين دولتَين أو مدينتَين، لكنّ اليمين الإسرائيلي سيبقى يعارض كما دائمًا، بينما يجب على الحكومة الإسرائيلية الاعتراف أنّ السيطرة على القدس الشرقية فيها إشكالية كبيرة، وما يجري اليوم أشبه بالحرب الأهلية، كتلك التي تجري في البلقان".
و"اللافت"، يقول كلاين: "إنّ أحزاب الوسط تعتقد أن ممارسة قوة أكبر ستعيد الهدوء إلى المدينة، لكن هذا الاعتقاد، سيكون وهمًا وليسَ أكثر من ذلك"، منوهاً إلى أن "المعارضة الحالية في الكنيست الإسرائيلية جاهلة تمامًا، وهم ينزعون إلى اليمين لكسب تأييد شعبي، وهذه هي الكارثة".
أمّا الكاتب الصحافي المقدسي راسم عبيدات فيعقّب على هبّة المقدسيين قائلاً: "لقد زادت حالات الرعب والخوف والهوس وفقدان السيطرة على الأوضاع، بحيثُ باتَت آلات التدمير والتخريب هي الحل الوحيد لمنع الفلسطينيين من الاحتجاج ورفض الذُل والهوان، وسيبقى مشهد تفجير بيتيْ الشهيدين غسان أبو جمل ومحمد جعابيص ماثلاً أمام المقدسيين، كما قامت الشرطة والمسؤولون بسحب إقامة عائلاتهما، ومصادرة الممتلكات، كل ذلك بهدف كسر الإرادة وتحطيم المعنويات، وعلاوة على ذلك فقد فرض الأمن طوقًا مشدّدًا وحصارًا شاملاً، وأغلق الطرقات الرئيسة للبلدات المقدسية بالمكعبات الاسمنتية، فحُرِم المقدسيون من وسائل الوصول إلى أعمالهم ومدارسهم، وشُلّت مظاهر الحياة الطبيعية.
وإلى جانب الذُل هناك سياسة العنف والبلطجة وفرض المزيد من الضرائب على سكان المكان الأصليين، فكيف لا يغضب المقدسي، بسبب كمية الكراهية والعنصرية المزروعة في جسمٍ متطرفٍ لا يملك القلب والإنسانية؟!"
القدس مدينة أشباح
في حديثٍ خاص مع الباحث والأكاديمي د.مهدي عبد الهادي حول ما تمر به القدس من ظروفٍ قاسية، قال إنّ "القدس مدينة أشباح"، شارحاً ذلك بالقول: "ها هي المحال التجارية شبه مغلقة، وتجّارُ المدينة يرثون ماضيهم ويأملون بمستقبلٍ أفضل، بينما ينتشر المستوطنون في أزقة وأحياء القدس، وهم يرددون عباراتهم المتطرفة، بينما تبدو على سحناتهم ثقافة الخوف والغضب والرغبة بالانتقام من المقدسي".
ويعتقد د.عبد الهادي أنّ 95% من الإسرائيليين يرفضون العيش مع الفلسطينيين في المدينةِ ذاتها، ويشير في الوقت نفسه إلى سياسة رئيس الحكومة الحالي نتنياهو، وجوقته المحرِّضة، على فرض قوانين عنصرية، مضيفاً "لعلّ ما جرى ويجري في جنوب إفريقيا أقل وحشيةً مما يجري هنا في القدس، وإلا ما معنى أن "حمل السلاح" أصبحَ شرعيًا لليهودي والمستوطِن؟!".
تقسيم زماني ومكاني
يقول د.عبد الهادي: "لا أفهم ما يسمّى "الثقافة الإسرائيلية" ووزيرتها المتمثلة بميري ريغيف التي تطالب بفرض المزيد من القوانين العنصرية ومنع الأذان في الحرم القدسي الشريف، وإغلاق المحال التجارية معاقبةً للمقدسيين، وإغلاق القنوات الفلسطينية وملاحقة الصحافة".
ويعوِّل د.عبد الهادي على الشباب المقدسي المتمسِك بهويته وعقيدته ووطنيته وخطابه في ظل غياب القيادة والرؤية والدعم.
ويرى الحل متمثّلاً بتدخل المؤسسات الدولية التابعة للأمم المتحدة، والتي عليها ألا تعترف بسيادة إسرائيل على القدس، كما يرى أنّ على الدول العربية وللحركة الإسلامية في الداخل الدور الأكبر لتعزيز صمود القدس، في المقابل تقوم الجهات الإسرائيلية والجمعيات الاستيطانية بتمويل اليهود لتعزيز البناء والحياة في القدس، وأمام هذا الواقع يصُعب إيجاد حلٍ لا يكون فيه المقدسي مُصرّاً على البقاء في ظل حفاظه على كرامته ووجوده في المدينة التاريخية والحفاظ على مقدساتها، لكنه غير متفائل كثيرًا في ظل الاحتلال ووصول المدينة المقدسية إلى مرحلة الاحتضار.
بينما تقول المحامية المقدسية نسرين عليّان (من جمعية حقوق المواطن): "إنّ ما يحدث في القدس مأساويٌ جدًا، وقد بلغت سلسلة المواجهات اليومية والتقييدات الكبيرة على أهالي القدس ذروتها"، وتضيف: "نحنُ نشهد تصعيدًا جديدًا لم نعهده منذ الانتفاضة الأولى، وحتى في الانتفاضة الثانية لم تعهد القدس مثل ما نراه اليوم، الواقع مختلف تمامًا، أجواء متوترة، مواطنون يخافون على حياتهم، ولم يعد الواقع طبيعيًا، بل تحول إلى توتر شديد وخوف أساسي على الحياة، وأصبح السؤال الوارد: هل أخرج من البيت أم لا في ظل هذه الظروف؟".
دور الجمعيات الأهلية والمحاكم الدولية
عن الخطوات التي يمكن للجمعيات الأهلية القيام بها لمنع الممارسات الإسرائيلية بحق المقدسيين، تقول نسرين: "للأسف الجمعيات الأهلية غير قادرة على تغيير واقع، لكنها تستطيع التأثير عليه قليلاً وذلك بالتنويه والإشارة ورصد الأحداث والمطالبة بتطبيق قوانين حقوق الإنسان، ومحاولة التقليص من هذه الجرائم، مثل منع استعمال الرصاص الحي، من خلال التوجه للمستشار القانوني بمعاقبة المتورطين. أمّا المحافل الدولية فهي عادة تعمل مقابل الجمعيات الدولية، إلا أن تأثيرها ضئيل في الوصول إلى المحافل الدولية، وللأسف النتيجة لم تأتِ بالتأثير الجذري، والدور السياسي هو الأكثر تأثيرًا".
واقع المقدسيين خطير
في حديثٍ مع الصحافي المقدسي أحمد البديري قال: "نحنُ أمام واقع خطير، في ظل وجود مستوطنين فقدوا عقولهم وحكومة إسرائيلية متطرفة وقادة أجهزة أمنية لا يفكرون بالبشر. وإذا ما بحثنا عن السبب وراء هذه الانتفاضة، فهو يكمن أولاً في ما يحدث في الأقصى، وإحراق الطفل أبو خضير ثانياً".
ويضيف: "هناك أيضًا الحالة النفسية للشبان المقدسيين الذين فقدوا أمنهم وسلامتهم، في ظل غياب الأفق السياسي والثقافي والاجتماعي، وبات العامل المقدسي غير قادر على الوصول لمكان عمله، في ظل تهديدات بقتله بلا سبب، كما تحوّل الشبان الصغار إلى قنابل مؤقتة معتمدين بذلك على صفحات الفيسبوك التي تخفف مِن حدة قلقهم وأوضاعهم المزرية".
ويُردف البديري: "بتنا نخاف على أبنائنا، فأنا أخاف على طفلي أن يخرج من البيت بلا مرافق، والجندي يقف عند الحاجز ويده على الزناد، لذا يطالب المقدسيون بالحماية الدولية، وهو أمرٌ منطقي جدًا"، منوهاً إلى القلق الذي بات يعتري المقدسي على حياته وحياة عائلته وعلى مقدساته التي تُنتهك، وخاتماً بالقول: "نحنُ في القدس نطلب الكرامة والأمان، وهي مطالبٌ شرعية في ظل الاحتلال".
من جهته يقول المحامي خالد الزبارقة من مؤسسة "الميزان": "مهمتنا في مؤسسة الميزان رصد وتوثيق الاعتداءات والانتهاكات بحق الفلسطينيين في البلاد، وخاصةً في القدس، حيث لدينا ملف كامل حول جريمة إحراق عائلة دوابشة في دوما، ونوثّق ما تعرّض له أطفال القدس من اعتداءات وانتهاكات وقتل ميداني، وقمنا بنقل رسالتنا إلى المحافل الدولية حول الإعدام الميداني في القدس وفي الداخل".
ويضيف: "تمّ توثيق إطلاق النار على الشهيد الجولاني أمام مرأى العدسات المصوِّرة، بينما تابع محامي الشهيد فادي علون المحكمة مطالبًا بتشريح الجثة، لمعرفة أسباب الوفاة الحقيقية، لكن الشرطة والمحكمة ومحكمة الاستئناف رفضت الطلب، وكأنما الجهاز القضائي الإسرائيلي بكامله يحاول تبرئة القوات العسكرية ويشرعن القتل وارتكاب الجرائم".
وقال أيضًا: "هناك الكثير من الشهادات التي جمعناها من قِبل شهود عيان حول استشهاد علون، حيثُ قام المستوطنون بإطلاق النار عليه، وكذلك أجهزة الشرطة الإسرائيلية، وبقي على الأرض ينزف بدون إسعافه!".
ويتحدث المحامي الزبارقة عن ترك الطفلة من عائلة بكري تنزف أمام مرأى الجيش والشرطة والجميع يشهر سلاحه باتجاهها، متسائلاً "هل شكّلت خطرًا على الموجودين؟ أو الطفل أحمد مناصرة الذي شهد لحظة موته؟! إنها جرائم يومية بحق الأطفال المقدسيين، ولا فرق بين مناصرة والبكري وعائلة دوابشة".
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها