خاص مجلة القدس- بقلم: هاني فحص
ذهبنا إلى فتح مبكرين نسبياً، على أساس الوعد بفلسطين، الذي تبينَّا جديته في عيلبون في 1/1/1965.. وبعدها ذهبنا إلى مصادر زودتنا بمعلومات شحيحة جداً، ومتباينة أحياناً، عن تأسيس حركة فتح وعاصفتها، وعن الأفكار التي حكمت هذا التأسيس، فاكتشفنا، ثم تيقنا مع العمليات الأولى بعد نكسة حزيران 1967، وترسخ يقيننا مع معركة الكرامة، بأن أهم ما اقترفته المجموعة والعقلية المؤسسة، هو مركزية التحرير ونهائية فلسطين في النصوص والشخوص والسلوك.. أي أنها تجنبت العقائدية التي سرعان ما تحولت في كثير من الحركات التغييرية والتحريرية، وتتحول إلى دوغمائية (تحجر) أو إيديولوجيا (أي معرفة مزيفة بالواقع وجذوره وآفاقه) فذهبنا إليها، أو أنها أتت إلينا لأننا كنا ننتظرها وهي، من أجل التحرير الذي لا يستعجل ولا يؤجل، تذهب إلى أي مكان، تطبق بالفعل والفكر وحركة العمل والتحالف، والتنازل الضروري أحياناً والشريف ، والصراع غير المفتوح إلا مع العدو الرئيسي (الصهيوني).. تطبق ما لخصه (محمود درويش - قصيدة فلسطين) بقوله: "إن البيت أهم من الطريق إلى البيت" مغطياً بهذه العبارة المكثفة منهج فتح ووجدانها، الذي يقول: إن فلسطين تغفر الخطايا، وحتى الكبائر في السياسة، إذا كان ذلك لصالحها، لأنها كماء البحر والنهر تطهر من يقصدها سابحاً، من أدرانه ونجاساته، وتبقى طاهرة ومطهّرة، لأنها كثيرة كبيرة وواسعة، فهي معتصمة من النجاسة وعاصمة منها.
ودخلنا فضاء فتح الأوسع من تنظيمها، على أساس ما أسسته معركة الكرامة ملخصاً في (خصوصية الفكر أو التنظيم وعمومية الانتماء). وإن بقي في إطار فتح بقايا من العصبية الحزبية المتحررة من تجارب عربية عبر قيادات تاريخية حملت معها شيئاً من موروثها الذي تغلغل في تكوينها وكانت لبعضه آثار سلبية على وحدة فتح القائمة على التعددية وعلى الفضاء لا الحصار، ما مكنها أن تستمر وأن تسلم وتبالغ أحياناً في قناعتها بضرورة الاختلاف وإن كان مضراً، وتجنح إلى التكامل في لحظات التحدي.. وتبدو وكأنها حزب عقائدي قد تشكل لتوه.. ودائماً وفي كل محطات الشغب العقدي أو الحزبوي أو الفردي، على الحركة، كان أفراد قليلون جداً يخرجون، ليكتشفوا ونكتشف أنهم لم يدخلوا، بل ركبوا موجة فتح.. البحر.. على خفة فأخذهم التيار. إلى القاع إلى بيئة الطحالب، بعيداً عن حركة الموج وعن فلسطين! وآخرون أعلنوا الفصال.. ثم انتبهوا إلى أن فتح كثيرة الأبواب المشرعة ليل نهار للداخلين ومن دون تفتيش.. ولكن من يريد الخروج، لن يجد باباً للخروج، أليست مفارقة أن كل من خرجوا تسموا باسم (حركة فتح كذا وكذاك وكذلك)!!! هذه اللاعقائدية.. اللاحزبية، تحولت في وعينا وسلوكنا إلى عقيدة أو ما يشبهها. مع حرصنا على استبعاد العقائدية من العمل السياسي وحتى المعرفي والتحضيري، على أساس أن العقائد لا تصنع حضارات.. بل العقل المواكب فاعلاً ومنفعلاً مع المتغيرات، على ثوابت عميقة ومرنة، هو الذي يصنع الحضارة، أما العقائد، إذا انتبه رعاتها، فإنها تسهم في صيانة الحضارة من المرض والتلف وتقتلها إن تغلغلت فيها. أو اختزلتها.
هذه العقيدة، التي لم تحول فتح إلى صنم، وأبقت عليها رصيداً مسيَّلاً في حساب فلسطين.. هي التي حصنتنا من الانكفاء حتى في اللحظات الحرجة، لحظات استحكام الإخوة الأعداء خاصة وحصارهم لنا أو لحظات الممارسات السلبية أو الملتبسة أثناء الحرب اللبنانية وقبل الإخراج من لبنان، الذي رغم قسوته، كان بداية للحصاد السياسي الواقعي والعقلاني، بعد فاصل سبات ضروري واضطراري في تونس، بدا أثناءه أبو عمار محبطاً، ولكن على عادته يغتنم الإحباط فرصة للإبداع وصناعة التاريخ في فلسطين هذه المرة، ومن خلال أوسلو التي غيرت المعادلة، وعقدتها علينا وعلى إسرائيل معاً.. ما ختمه أبو عمار، الذي كان يعرف خاتمته، أي انغلاق أوسلو، ختمه بالموت شهيداً في الخندق، خندق المقاطعة، الذي قال فيه أبو عمار: هذه هي هويتي.. (النضال) وراحت إلى النفايات كل التخرصات الثورية التي تشبه الفجل (الحمرة من الخارج فقط) على ما شبه لينين بعض رفاقه الشيوعيين. هذه (الفتح) العقيدة اللاعقدة.. كانت ذخيرتنا بعد أوسلو.. وقبلها عندما اختزلت مخابرات عربية معروفة.. فتحاوية الجميع بالعرفاتية التي صارت تهمة يعاقب عليها مادياً ومعنوياً، وانتظرنا.. وتقلبت الظروف علينا.. إلى الآن.. وقد انكشفت، محاور (نضالية) كثيرة، وتكشفت سلوكيات نضالية حقيقية عن أهداف غير ملائمة ولا تناسب فلسطين ولا أرواح الشهداء.. وقد.. وقد.. تحولنا من الدفاع عن أنفسنا والدفاع عن لاعقائدية فتح وعن ممارساتها مع الإصرار على النقد القاسي والعلني للأخطاء من دون أن تخوِّن أو تخوَّن .. تحولنا إلى الهجوم على أساس أن الأساس سليم، وأن التراث محكوم بهذا الأساس، وأن أخطاءه كثيرة ومتوقعة، ولكنها في التفاصيل، وهذا لا يدعو إلى التساهل بل إلى التفهم والإصرار على سلم الأولويات.. وفي رأسها فلسطين، ومن أجلها، إبقاء فتح مطابقة في تكوينها وحركتها لتكوين الشعب الفلسطيني.. تحولنا إلى الهجوم والمفاخرة من دون استعلاء أو غرور والإصرار على أمثولة فتح التي قالت وتقول إن الإطار الواسع والمرن هو الأقدر على الاستيعاب وتلقي الضربات وعلاجها وهو يخدم أهله كثيراً وطويلاً، لأن إصلاحه ميسور أكثر بينما الإطار الصلب، ضيِّق خانق وباهظ الانكسار وقابل للتشظي عند أي صدمة قوية حيث تصبح وحدته مستحيلة، وتصبح شظاياه كيانات ترجح الصراع الداخلي على الخارجي كما حصل في كثير من الأحزاب العربية والمنظمات الفلسطينية .
وعندما يحاولون إحراجنا بالسؤال: وإلى أين؟ نرد بقول علي بن أبي طالب (ع) داعين إلى الصبر على فلسطين ومن أجلها "ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع في غير أرضه". والدليل فلسطين في الأونيسكو وفي الأمم المتحدة.. وفي موعده سوف يصبح الجنين فتىً جميلاً يسر الناظرين والمنتظرين في بيوتهم وقبورهم.
ويزدهينا الفرح بهذا النصر ونملي شرطنا من أجل الحفاظ عليه وتنميته.. الوحدة الفلسطينية.. وتأتينا البشائر من المليون الذين احتشدوا في غزة.
ونبلغ الذروة في دهشتنا.. عندما نلاحظ أن قناة فضائية فلسطينية مختلفة مع فتح وقناةً لبنانية مقاطعة ومتوترة من الرئيس محمود عباس خاصة. نلاحظ أنهما نقلتا في ذكرى الرصاصة الأولى خطاب الرئيس، رئيس فتح ومنظمة التحرير ذاتهما ورئيس السلطة التي جاءت من أوسلو اللعينة والدولة التي تحولت من حلم إلى مشروع على طريق التحقق الطويل أو القصير؟ لأنهم.. المهم أن نواصل.. وأن لا نفصل قمصاناً نضالية للشعب المناضل دائماً وفي كل الأحوال .. حتى النوم .. والذي يعرف قياسات بدنه وروحه ووطنه، ويصنع لها الثوب اللازم والمناسب.. يصنع لها ثوباً على طريقة الخياطة الفتحاوية ومن نسيج الشعب الفلسطيني.
تحية للحركة التي أتقنت الحراك حتى عندما كانت تسكت كانت تقول وربما ببلاغة أبلغ وفصاحة أفصح، وعندما كانت تكف عن الحركة، كانت أعماقها تحتشد بالحركة وتحرك أعماق القضية.. تحية للحركة التي حيرت أعداءها وخصومها وحلفاءها وأصدقاءها وأعضاءها .. فزادت الأعداء عداوة والخصوم جدلاً والحلفاء تدقيقاً والأصدقاء محبة ورجاءً والأعضاء استمراراً بحاجة دائمة الى تجديد ونقد ذاتي حقيقي وتصحيح .. وما زالت رغم كل المنغصات.. تزيد أبناءها حواراً وتماسكاً وتنوعاً على قاعدة الوحدة. وحتى صار المنفصل عنها كالشاة التي تنفصل عن رتلها ويأكلها الذئب.
ختاماً لا بد من إقرار بأن فتح أنجزت بكفاءة وحدتها الداخلية من دون إلغاء الاختلاف أو المختلف، أي حفظت التنوع بالوحدة، ولا بد أيضاً من التعبير عن أمنية هي أن تكون فتح رافعة في تحقيق الوحدة النضالية الفلسطينية أي حفظ التعدد بالوحدة. وقد جاءت البشائر من غزة شراكة بين حماس وفتح والجميع وفي أعقاب إنجاز ملموس ضد العدو اكتمل بخطوة كبيرة على طريق الوحدة المنشودة .. والعتيدة بإذن الله .. نسأل الله بهذه المناسبة أن تكثر إنجازاتنا السياسية والميدانية.. من الأمم المتحدة إلى غزة والضفة.. لتترسخ عليها الوحدة ويدوم الحوار.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها