خاص مجلة القدس- بقلم: د. عبد المجيد سويلم
تنتاب جموع الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج على حدٍ سواء شكوك متزايدة حول المصالحة لا من حيث التباطؤ في إقلاعها وليس من حيث درجة الاهتمام الوطني بها وإنما من حيث – وهذا هو الأخطر- الاطمئنان إلى القناعة بالإقدام عليها وانجازها.
ومجرَّد هذه الشكوك يعود- برأينا إلى أن الأجواء التي خلقتها معركة التصدي للعدوان على قطاع غزة، ومعركة انتزاع عضوية الدول المراقبة في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وسلسلة الخطوات التي أعقبت هذين الحدثين الحاصلين بما في ذلك السماح لحركة "حماس" بإحياء ذكرى انطلاقتها في مدن الضفة وإحياء الذكرى الثامنة والأربعين لانطلاقة حركة "فتح" في ساحة ياسر عرفات في مدينة غزة، ساحة السرايا سابقاً- لم تقدّم ولم تؤخر في انطلاقة قطار المصالحة، وتمّ الاستعاضة عن اتخاذ الخطوات العملية المباشرة والتقدم الحقيقي باتجاه آليات تنفيذ فعالة بالأحاديث المعسولة عن المصالحة وأهميتها وضرورتها وكان الشعب الفلسطيني لا يعرف ولا يدرك هذه الأهمية وهذه الضرورة.
لم يعد التحليل السياسي التقليدي قادراً على تقديم إجاباته شافية في تفسير احتجاز المصالحة ويحتاج الأمر على ما يبدو إلى درجة عالية من المكاشفة والصراحة وإلى درجة أكبر بكثير من السابق في رؤية جملة من العناصر الداخلية والإقليمية وحتى الدولية في قراءة هذا الاحتجاز ودور هذه العناصر في التأثير على إعادة المصالحة.
والواقع أن الإخوة في حركة "حماس" قد انتقلوا من المراهنة على المحور الإيراني السوري إلى الارتهان الكامل لسلطة الأخوان المسلمين في مصر للأسباب المعروفة، لكن هذا الانتقال له جوهر وله مضمون إضافةً إلى أن له آليات وأدوات وإجراءات تتبعه وسياسات ومواقف وتوجهات تستدعيه وتتطلبّه.
فقبل وصول "الأخوان" إلى سدة الرئاسة وتشكيل الحكومة المصرية وقبل الانقلاب على مؤسسات الدولة والقضاء وقبله على المجلس العسكري للقوات المسلحة كانت حركة حماس تعيش حالة من المراوحة والترقب وكانت المصالحة في قاموس حركة حماس مسألة مؤجّلة إلى ما بعد انجلاء الغيوم التي كانت تغطي سماء القاهرة وتحولت المصالحة إلى مسألة ثانوية في قاموس حركة حماس لأن تكريس "كيان غزة" تحول إلى "واقع ممكن" عبر علاقة ارتباط عضوي وخاص مع نظام الإخوان في مصر تحت لافتات وشعارات لا تخلو من الثورية والتضحية بعد الانقلاب الإخواني.
وفي ضوء الصفقة التاريخية التي عقدتْ ما بين جماعة الإخوان في الولايات المتحدة والتي عبرّتْ عنها الهدنة التي وقعتْ بعد العدوان الإسرائيلي والذي أنيط بحكم الإخوان مهمة الرعاية والوصاية عليها تكون حركة حماس قد وفرتْ لنفسها مظلة البقاء ومظلة للحديث باسم القطاع، ومظلة للدخول كشريك سياسي مباشر على وجود هذا الكيان ومستقبله. وفي ضوء هذا كله فإن حركة حماس لم تعد على استعداد لتنفيذ اتفاقات الدوحة والقاهرة وإنما تحويل معركة المصالحة إلى معركة حول إصلاح أو إعادة بناء المنظمة، وليس توحيد مؤسسات الدولة، وتحولت المعركة بالتالي من معركة إعادة بناء النظام السياسي بكامله عبر الانتخابات التي أكدت عليها الاتفاقات للرئاسة والمجلس التشريعي والمجلس الوطني إلى معركة هي في الواقع معركة "الحصة" التي يمكن أن تتحصّل عليها حركة حماس في المنظمة وليس معركة إعادة بناء وشرعية النظام السياسي وتوحيد مؤسساته الوطنية كافة.
لكن الصفقة التي عُقدت ما بين الولايات المتحدة والإخوان في مصر تتطلب أولاً وقبل كل شيء تدجين حركة حماس سياسياً حتى يتم الموافقة الأمريكية والإسرائيلية على إدراج الحركة في سياقات سياسية حتى ولو بحدود معينة، وهو الأمر الذي يستدعي فرض قيادات معتدلة من حركة حماس على رأس الحركة وهذا هو بالضبط ما يفسّر إعادة الأستاذ خالد مشعل إلى الواجهة السياسية وتقديم الدعم المباشر له من قبل الإخوان في مصر ومن قبل كلٍ من قطر وتركيا.
والصفقة تقضي بأن يتم تحويل وقف إطلاق النار في اتفاقية مؤقتة إلى هدنة دائمة، وتحويل قوات حركة حماس إلى قوة مراقبة للحدود ما بين القطاع وإسرائيل وإلى تحول مصر في دور الوسيط إلى الضامن لكل شيء بما في ذلك وقف تهريب السلاح إلى القطاع، والشواهد أصبحت ماثلة أمامنا.
حركة حماس انضبطت للدور، والنظام الإخواني باشر بوقف التهريب ووضع مجسّات الكترونية كان نظام مبارك نفسه يرفض وضعها على الحدود بما يعني أن العملية تسير وفق ما تم الاتفاق عليه في "اتفاق وقف إطلاق النار" وعلى أحسن ما يرام من وجهة النظر الأمريكية والإسرائيلية.
حسابات حركة حماس أربكت من جديد في ضوء عاملين جديدين:
العامل الأول، اهتزاز حكم الإخوان في مصر وتحوله إلى نظام فاشل على مستوى المحافظة عن الاستقرار السياسي وإلى نظام فاشل بامتياز على مستوى الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في مصر.
العمل الثاني هو خروج أكثر من مليون غزيّ في ذكرى تأسيس حركة "فتح" وانطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وما عكسه هذا العدد الهائل وغير المسبوق وغير المتوقع من دعم للقيادة الفلسطينية والتوجهات السياسية لهذه القيادة ومن دعم للبرنامج الوطني الذي تجسّده منظمة التحرير الفلسطينية.
فالأرضية المصرية باتت رخوة للغاية والأرضية الداخلية في القطاع أظهرت أن حركة حماس تحكم سيطرتها الأمنية على القطاع بوسائل عسكرية في حين أن سلطتها السياسية مسألة مشكوك فيها بصورة كبيرة.
إضافة إلى هذين العاملين فإن الحصار لم يتم رفعه بصورة كاملة وفورية كما ادّعت حركة حماس. إن الاتفاق حول وقف إطلاق النار يتضمن نصاً صريحاً حوله، كما أن إسرائيل تقوم بخروقات مستمرة دون أن تلاقي هذه الخروقات غير تقديم الشكاوي من قبل حركة حماس للقيادة المصرية واستمرار قوات حركة حماس بالدوريات المنتظمة لضبط الحدود!!!.
إن جزءاً من إرباكات حركة حماس يتعلق بالانتخابات الداخلية هو الصراع المحتدم بين أجنحة الداخل والخارج، وبين الداخل والداخل، وبين القوى التي ترفض فك الارتباط مع إيران والقوى التي ترى ضرورة الارتهان الكامل لاستراتيجية نظام الإخوان ومعادلاته الإقليمية والدولية، وتحويل ورقة المصالحة إلى جزء من اللعبة السياسية لهذا النظام.
باختصار لم تعد ورقة المصالحة ورقة في يد حركة حماس فقط وإنما أصبحت ورقة مصرية إخوانية بالأساس وهي لم تعد تخضع للاعتبارات الخاصة بحركة حماس فقط وإنما لاعتبارات أكبر وأوسع من اعتبارات حركة حماس أي أن حركة حماس انتقلت من التحالف مع إيران إلى الارتهان للإخوان.
وبهذا المعنى بالذات فإن المصالحة عبر البوابة الإخوانية في مصر باتت تخضع لشروط العلاقة الأمريكية والإسرائيلية من جهة وبين نظام الإخوان من جهة أخرى.
وإذا كانت الإدارة الأمريكية ومن خلفها والإدارة الإسرائيلية قد مارست فعلاً لا قولا فقط الضغوط الهائلة على القيادة الفلسطينية لمنع المصالحة فقد ثبت الآن أن هذه القيادة لا تقبل الاملاءات، وهي لا تقبل الخضوع للضغوط ليس فيما يتعلق بالمصالحة فقط. وإنما ثبت ذلك وبصورة لا تقبل الشك فيما يتعلق بالتوجه إلى الأمم المتحدة والتي خاضتها القيادة الفلسطينية بكل شجاعة وإباء، ونجحت في انتزاع القرار وسطرت انتصاراً ساحقاً على الرغم من كل الضغوط الهائلة التي تعرضت لها.
وباختصار أيضاً تحولت الضغوط الأميركية والإسرائيلية عبر البوابة المالية بعدما فشلت البوابة السياسية فشلاً ذريعاً بالنسبة للقيادة الشرعية، وتحولت الضغوط على حركة حماس إلى ضغوط سياسية بهدف التدجين السياسي والإغراء بالحفاظ على "كيان" غزة بهدف الضغط على المنظمة والشعب والسلطة وابتزاز الحالة الفلسطينية كلها.
أي إن وجود حركة حماس على رأس هذا الكيان يتطلب إنهاء مشروع "المقاومة" والإبقاء على الانقسام والخضوع لجملة كاملة من متطلبات التدجين السياسي وهذه العملية تباركها بالفعل دولة قطر وحكم الإخوان في مصر وإلى حدٍ ما القيادة التركية وجموع الإخوان من المنقطة العربية، وعليه فإن المصالحة الحقيقة باتت أبعد من أي وقت مضى إذا كانت المصالحة تعني إعادة توحيد المؤسسة الوطنية والاتفاق الشامل على إعادة بناء وشرعنة جملة مكونات النظام السياسي وإذا كانت تعني التوافق السياسي على برنامج الدولة الوطنية المستقلة وحق تقرير المصير وحق العودة على القاعدة 194 وتوحيد أدوات ومنهج الكفاح المسلح.
إذا كانت المصالحة تعني بعض الخطوات التشكلية وبعض المجاملات السياسية وبعض الخطوات الإجرائية فإن المصالحة يمكن أن تتم لأن مصالحة من هذا النوع لا تمس جوهر الانقسام ومضمونه، وليس لها علاقة حقيقية بوحدة النظام السياسي وإعادة بنائه وشرعيته الدستورية.
المصالحة التي تبحث عنها حركة حماس ليست إلا تلك المصالحة التي تبقيها حاكماً عسكرياً للقطاع على أمل أن تتحول إلى لاعب سياسي مقبول أمريكياً وإسرائيلياً ودولياً وإقليمياً وإما ما دون ذلك فهو لا يعني حركة حماس من قريب أو بعيد.
المخطط المعادي لشعبنا أكبر وأخطر من الترقيع الذي يُمكن أن يطلق عليه مصالحة وحدة المؤسسات وشرعيتها وتماسكها لا يمكن أن تستبدل ببعض الإجراءات الشكلية ووحدة وشرعية التمثيل لا يمكن أن تستبدل بالمحاصصات التي تحول هذه الوحدة وهذه الشرعية إلى مجرد أشكال أدارية وتوليفات تنظيمية للانقسام والاقتسام.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها