هذا العنوان يطرح العديد من التساؤلات، فهل هما متكاملتان ومتلازمتان في واقع حركات التحرر الوطنية؟ أو أنهما متمايزتان تستطيع الواحدة منهما أن تنتصر في غياب الأخرى؟ وفي الواقع الفلسطيني هل تنجح المقاومة في غياب الوحدة الوطنية؟!
هذه التساؤلات تقودنا إلى المعالجة الموضوعية والجريئة للواقع المؤلم في الساحة الفلسطينية خاصة أنَّ الاستعصاءات تتضاعف يوماً بعد يوم، وحالة الاحباط في الأوساط والقواعد الشعبية تزداد حفراً في الذاكرة والأحلام الفلسطينية.
من خلال المحاكمة الواقعية لتطورات الأحداث الدراماتيكية التي تشهدها الساحة تكرَّست قناعات جوهرية لدى الشعب الفلسطيني بأنَّ المفاوضات بالآلية التي كانت سائدة لم تقدم النتائج المرجوَّة للقضية الفلسطينية، وهذا كان بشهادة الجميع بما في ذلك قيادة م.ت.ف والرئيس أبو مازن تحديداً . كما أنَّ الشعب الفلسطيني لم يجمع على أن المقاومة المسلَّحة أعطت النتائج السياسية المطلوبة مقابل التضحيات البشرية والمادية والمعاناة المتواصلة، وما تمَّ كانت حالة صمود وبسالة، وقدرة على الصبر أمام هول المآسي في قطاع غزة المُدمَّر عبر ثلاث حروب متتالية دون أن يحصل أهلها المنكوبون والمشردون على المكافأة المطلوبة وأقلها إعادةُ إعمار بيوتهم المدمَّرة منذ اوائل العام 2009.
القضية الجوهرية التي لا يمكن الهروب منها أنَّ منظمة التحرير الفلسطينية هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، كل الشعب الفلسطيني بكافة قواه الاسلامية والوطنية والمنظمة بوضعها القانوني الدولي والعربي تحمَّلت أعباءَ الكفاح الوطني الفلسطيني، وشكَّلت حالة ناضجة في مواجهة الكيان الاسرائيلي، ونجحت في تثبيت الكيان الوطني الفلسطيني، والهوية الوطنية. وهذا يعني أنَّه على الفصائل التي مازالت غير منخرطة عملياً في إطار م.ت.ف أن تحسم أمرها بالإنضمام إلى المنظمة ومؤسساتها، حتى تتجسَّد الوحدة الوطنية متكاملةً وعلى كافة الأصعدة، وحتى تكون بحجم القضية الفلسطينية، وبمستوى تضحيات الشعب الفلسطيني. وأن تتمتع بالقدرات المطلوبة لمواجهة المشروع الصهيوني الذي يهدد وجودنا وشعبنا ومشروعنا الوطني.

إذاً أين تكمن العقدة؟ وهل بالامكان التغلُّب عليها وقهرها؟؟
لايستطيع أحدٌ أن يخفي الحقيقة لأنَّ التجربة السابقة اكَّدت الكثير من الحقائق على أرض الواقع، فلا الديماغوجية، ولا المناورات الاعلامية، ولا فنون التضليل قادرة على نفيها. ولا المصالح الفصائلية السياسية تستطيع إخفاءَها، وان كانت أحياناً تعمل على تجميلها، إلاَّ أنها لا تستطيع تجاوزها.
إنَّ الثورة الفلسطينية ومسيرتها الكفاحية بقيادة م.ت.ف كانت ملتزمةً بالمشروع الوطني الفلسطيني الذي كان مصدر إجماع فلسطيني في مختلف ساحات الصراع. المشروع الوطني الفلسطيني تجذَّر منهجاً أساسياً وجوهرياً عبر قوافل الشهداء، ونزيف الدماء، وتراكم الانجازات، هذا المشروع شقَّ طريقه بنجاح في مختلف الاوساط الفلسطينية لأنه يلبي متطلبات العمل الكفاحي الجماهيري بوجه العدو الاسرائيلي الذي يشكل خطراً على وجود ومستقبل الشعب الفلسطيني بكل طوائفه، وشرائحه الاجتماعية، وتصنيفاته السياسية.
هذا المشروع الوطني الذي تقوده م.ت.ف تعرَّض لكثير من محاولات التدمير، والتفكيك، والإلغاء منذ بداية السبعينات، مروراً بالثمانينات مع الاجتياح والانشقاق، وتواصلاً مع مؤتمر مدريد ومخلَّفاته، وصولاً إلى الألفين والانقسام وتداعياته، ودخول العنصر الاسرائيلي على خط الاستثمار السياسي للواقع الفلسطيني المضطرب، والمنهَك بهدف الاستفادة من حالة التدهور عربياً، والانقسام فلسطينياً لرسم ملامح المرحلة القادمة حيث تخطط (إسرائيل) لتصفية القضية الفلسطينية عبَرْ خطط وترتيباتٍ تقضي بنسف الثوابت الوطنية الفلسطينية، وتحديداً القضاء على مبدأ حل الدولتين على أساس حدود الرابع من حزيران العام 1967. ولا أحد ينكر أنَّ من حملَ العبء الاكبر في حماية م.ت.ف هي حركة فتح وقيادتها التاريخية، مع عدم الانتقاص من جهود فصائل المنظمة بكاملها، وبالتالي هناك حاجة ماسة الى تطوير وتفعيل مؤسسات "م.ت.ف" بما يتناسب مع التطورات التي تعيشها الساحة الفلسطينية.
أما المشروع الثاني فهو المشروع الاسلاموي السياسي الذي بدأت بوادره تظهر مع نشوء حركة حماس، مع بداية الإنتفاضة الأولى في 9/12/1987، وبدأت حركة حماس تبرز كفصيل متمايز مع بداية العام 1988، ولذلك كان هناك برنامجان للإنتفاضة، المشروع الوطني مشروع م.ت.ف وهو الاساس في وضع قواعد الانتفاضة على يد مهندسها الشهيد أبو جهاد خليل الوزير، والمشروع الاسلاموي الذي كان يضم حركتي حماس والجهاد الاسلامي، إن لم تكونا من منبع ايديولوجي واحد. هذا الواقع الجديد انعكس على البرنامج الذي اعتمدته المنظمة، وحصلت الكثير من التباينات إلاَّ أن قيادة م.ت.ف كانت حريصة على وحدة الصف والحؤول دون بروز صراعات، والبحث دائماً عن نقاط التوافق باعتبار أن هناك عدواً واحداً.
مشروع حركة حماس السياسي بدأ يشق طريقه عندما وافقت على خوض الانتخابات الرئاسية والتشريعية في اجتماع الفصائل في القاهرة 2005، وهذه كانت مفاجأة: فلماذا تقبل حركة حماس بالمشاركة في الانتخابات التي هي من مكونات إتفاق اوسلو في الوقت الذي كانت تخوَّن فيه الرمز ياسر عرفات بسبب توقيعه على الاتفاق؟ فماذا يقف وراء هذا التحوُّل الدراماتيكي، وأن تقبل حركة حماس بالشيء ونقيضه. بعد نجاح حركة حماس في الانتخابات التشريعية وتمسكها بالسلطة، وما تلا ذلك من انقلاب حطَّم النهج الديموقراطي في الساحة الفلسطينية، وكرَّس انقساماً ما يزال شعبنا يلعق علقمه، ويكتوي بناره حتى الآن، وبرزت بشكل واضح اكثر من أي وقت مضى العلاقة السياسية والايديولوجية بين حركة حماس وحزب الاخوان المسلمين عندما وقف السيد خالد مشعل في قطاع غزة في مهرجان حاشد وبايع باسم حركة حماس مرشدَ الاخوان المسلمين.
أمام وجود مشروعين في الساحة الفلسطينية، والمشروع الثاني يتعاطى مع الساحة حتى الآن على أساس انه المشروع البديل، وليس المشروع المتكامل مع المشروع الوطني، وهذا عنوان لتأجيج الصراع، واستفحال الخلافات، ونسف كل محاولات التوحيد والتفاهم، وتدمير الثقة التي تحاول قيادة م.ت.ف بناءَها. والدليل على حجم الازمة ان كافة الجهود التي بُذلت، والحوارات التي تمت، والوثائق التي وُقعت، والمؤتمرات التي عقدت سرعان ما تتلاشى، ونعود إلى الوراء مع الكثير من الخيبات.
أمام هذه الازمة المستحكِمة ما هو المطلوب لإنقاذ المصالحة والوحدة الوطنية؟
أولاً: على قيادة حركة حماس أن تحسم ولاءَها السياسي للمشروع الوطني الفلسطيني، وأن تعطي الاولوية لكونها جزءاً لا يتجزأ من م.ت.ف، وأن تقتنع بأن فلسطين وشعبها وقضيتها اكبر من الفصائل الفلسطينية، وأنَّ القرار الوطني الفلسطيني يجب أن يكون مستقلاً وبعيداً عن المشاريع الاقليمية والدولية، وأن الورقة الفلسطينية لانستطيع وضعَها في جيب أحد لأن الشعب الفلسطيني هو صاحب الحق في اتخاذ القرارات المصيرية، وأن القضية الفلسطينية هي القضية المركزية، وهي غير قابلة لا للمقايضة، ولا للمساومة، ولا للمتاجرة.

ثانياً : إذا تم حسم النقطة الأولى نصبح في إطار وطني جامع، ونستطيع القول بأننا جاهزون لتطبيق وتنفيذ كافة البنود الواردة في إتفاق المصالحة، والمهم أنَّ جميع الفصائل وقَّعت على الاتفاق، واكدت التزامها به، وزفَّت البشرى إلى شعبها، فلماذا التراجع؟ ولماذا الاصرار على عدم مغادرة مربَّع الانقسام؟ علماً أنَّ الجميع اعتبر ان وثيقة الاسرى الوطنية التي وقَّع عليها قادة الفصائل في المعتقلات جوهرية، وتتناول كافة القضايا الخلافية وغير الخلافية بما في ذلك موضوع اقامة الدولة المستقلة وعاصمتها القدس على حدود 1967، وحق العودة استناداً الى القرار 194، ووضع الضوابط لموضوع المفاوضات، وأسس مقاومة الاحتلال.

ثالثاً : لا بد من حسم موضوع جوهري وهو رفض المخطط الاسرائيلي الهادف الى اقامة الدولة الفلسطينية في قطاع غزة، وفصل القطاع عن الضفة الغربية، واخضاع القدس لسياسة التصعيد في الاستيطان والتهويد، والتدمير والاقتلاع، والتهجير، والقمع والارهاب والعنصرية. وهذا يعني فلسطينياً أن قطاع غزة جزء من الدولة الفلسطينية المعترف بها دولياً . واذا كان قطاع غزة كذلك بموافقة الجميع، فحكومة الوفاق الوطني يجب ان يُسمح لها بأخذ دورها كاملاً، وان توافق حركة حماس على ذلك بقناعة تامة، وان لا تكون هناك سلطتان في القطاع وانما سلطة واحدة هي الحكومة المتفق عليها، عندئذ تبدأ عملية إعادة الاعمار، ويبدأ الاستقرار والاطمئنان في القطاع، وتنتهي مأساة المشردين من بيوتهم، وعندئذٍ تكون هناك شراكة سياسية حقيقية، وتسود المجتمع علاقات ديموقراطية، وتبدأعملية الاعداد لإجراء الانتخابات الرئاسية والتشريعية لحسم موضوع تداول السلطة.

رابعاً: ما تقدم من خطوات جوهرية إذا ما كُتِب لها ان تتم سيكون بالامكان الاتفاق على البرنامج السياسي الذي يُحدد المسارات المستقبلية السياسية والعسكرية، ويرسم الاستراتيجية المطلوبة لقيادة الصراع ضد الاحتلال، وتحقيق الاهداف الوطنية، وهكذا يتم انجاز الوحدة الوطنية التي تتسع لكافة الحوارات، والاجتهادات، والتفاهمات، والتوافق على القضايا الاستراتيجية والتكتيكية، وعندها نحدد شكل المقاومة، وأدواتها، وبرامجها، ومراحلها، ونحدد أهدافها بواقعية بعيداً عن المغامرات. وبالتالي ليس من حق أحد ان يقاوم على طريقته حتى  لا يُغرق المركب الفلسطيني ، وليس من حق أحد أن يفاوض منفرداً ودون توافق حتى لا ينقضَّ الاحتلال على حقوقنا. وأخيراً الوحدة الوطنية والمصالحة أولاً وقبل كل شيء على أرضية الوضوح والثقة المتبادلة، واحترام تضحيات شعبنا وشهدائه وأسراه.