كان الخروج من بيروت في سنة 1982 كارثة حقيقية لمنظمة التحرير الفلسطينية. فقد تناثرت مؤسساتها التي بُنيت خلال اثنتي عشرة سنة متواصلة هنا وهناك، وتشتت مقاتلوها في أماكن متباعدة مثل لبنان وسورية واليمن والسودان والجزائر، وانشطرت قيادتها بين تونس ودمشق. على أن أكثر الوقائع إيلاماً كان مجزرة صبرا وشاتيلا في بيروت التي حصدت نحو 1500 ضحية في ليلتين من القتل الهمجي (16 و17/9/1982). واكتشف ياسر عرفات أن اتفاق الخروج من بيروت الذي وقعه مع فيليب حبيب، والذي ينص على حماية المدنيين الفلسطينيين، كان بلا قيمة فعلية ما دامت منظمة التحرير الفلسطينية فقدت قوتها العسكرية، الأمر الذي يعني أنها تشرف على فقدان نفوذها السياسي والمعنوي.
في قمة فاس (6/9/1982) حينما وصل ياسر عرفات إلى المدينة قادماً من أثينا، خرج جميع الملوك والرؤساء العرب الحاضرين إلى استقباله في المطار كبطل اغريقي.
وكان الوحيد الذي لم يستقبله حافظ الأسد. وقد أدرك ياسر عرفات أن هذا التكريم لا يمنحه أي نفوذ حقيقي، وعليه أن يعمل بقوة لاستعادة المبادرة السياسية، واعادة هيكلية القوات الفلسطينية المتناثرة، ولملمة المؤسسات المعطّلة، والقيام باتصالات دولية ليبرهن أنه ما زال اللاعب الرئيس في الصراع العربي- الاسرائيلي. وفي هذا السياق استقبله البابا يوحنا بولس الثاني في 15/9/1982 في زيارة فريدة، لكنه لم يتمكن من القيام بجهد دبلوماسي لافت طوال الأشهر اللاحقة، لأنه واجه مجموعة من الأحداث العصيبة.
ففي 27/9/1982 اغتيل في البقاع العميد سعد صايل (أبو الوليد) وهو أبرز قائد عسكري في فتح.
وفي 14/2/1983 اغتال أحد عناصر جماعة صبري البنا (أبو نضال) عصام السرطاوي في مدينة "ألبوفيرا" البرتغالية وكان خارجاً من قاعة اجتماعات الأممية الاشتراكية إلى جانب شمعون بيريز. وفي 9/5/1983 أعلن بعض العسكريين أمثال العقيد سعيد مراغة (أبو موسى) والعقيد موسى العملة (أبو خالد) والعقيد محمود البدر (أبو مجدي) والعقيد واصف عريقات (أبو رعد) والمقدم زياد الصغير (أبو حازم) والرائد محمود عيسى (أبو عيسى) تمردهم على قرارات اتخذها ياسر عرفات في 1/5/1983 ونصت على تعيين العقيد غازي عطالله (أبو هاجم) قائداً عسكرياً للساحة اللبنانية والعقيد اسماعيل جبر قائداً لمنطقة شمال لبنان وتنحية سميح أبو كويك (قدري) عن منصبه كنائب لمحمد راتب غنيم (أبو ماهر) رئيس دائرة التعبئة والتنظيم، ونقل العقيد أبو موسى إلى اليمن ليكون في تصرف العقيد عارف خطاب. وانضم إلى هذا التمرد كل من نمر صالح (أبو صالح) وربحي عوض (أبو أكرم) والدكتور الياس شوفاني ومحمود اللبدي وغيرهم.
حيال هذه المشكلات عاد ياسر عرفات إلى دمشق لمعالجة تداعيات التمرد الذي كان قادته يهددون باستعمال السلاح لحسم الموقف.
وفي 23/6/1983 تعرض موكب ياسر عرفات في الطريق بين حمص ودمشق للهجوم بالقذائف والأسلحة الرشاشة. لكن ياسر عرفات كان، في تلك الأثناء، وبعد أن وصلته أنباء عن محاولة لاغتياله، يتجه إلى دمشق بسيارة أخرى، ويظهر في المدينة ليلقي خطبة أمام الاتحاد العام للأدباء العرب، ويتهم فيها النظام السوري بشق صفوف حركة "فتح" ومحاولة اغتياله. وعلى الفور عمدت السلطات السورية، وبالتحديد في 24/6/1983، إلى إبلاغه أنه غير مرغوب فيه في سورية، وعليه مغادرة دمشق خلال ساعات.
غادر ياسر عرفات دمشق إلى تونس بمرارة. وفي تونس شعر أنه ما عاد في قلب الأحداث السياسية، ولا سيما أن التسوية التي وعده بها فيليب حبيب والتي كان الرئيس رونالد ريغان أعلنها في 1/9/1982 قد سقطت، وأن المقاومة الوطنية في لبنان بدأت تصبح لاعباً مهماً بدعم من سورية. وأراد ياسر عرفات أن يستعيد حضوره كلاعب أساسي في المعادلة بعدما تأكد أن المنطقة العربية مقبلة على أشكال من الصراع وليس على أي شكل من الحلول السياسية.
المغامرة الشجاعة
في تلك الأثناء راح المنشقون يستولون على مقرات حركة فتح في سورية ولبنان، ولا سيما في منطق البقاع، ويهددون من بقي على ولائه للحركة ولمنظمة التحرير الفلسطينية، الأمر الذي أدى الى اشتباكات مسلحة. وكان من نتيجة ذلك أن القوات الفلسطينية أُرغمت على الانسحاب من البقاع نحو مدينة طرابلس والمخيمين المجاورين: نهر البارد والبداوي. وعمد المنشقون الذين تمتعوا بمساندة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة والجيش السوري إلى محاصرة قوات حركة فتح في شمال لبنان التي كانت بإمرة خليل الوزير (أبو جهاد).
وفي هذه الأحوال قام ياسر عرفات بأكثر الأعمال شجاعة في حياته. فقد تمكن من الوصول إلى مطار لارنكا في قبرص متنكراً بقبعة ولباس مدني، ومعه عدد من أخلص معاونيه ومرافقيه، مستخدماً عشرات ألاعيب التمويه والخداع التي سبقت وصوله إلى قبرص. وكان مناضلون من حركة فتح قد جهزوا سفينة صغيرة يقودها قبطان سوري من جزيرة أرواد الذي ما إن عرف أن أبو عمار على ظهر سفينته حتى أجهش بالبكاء وراح يقبله واضعاً نفسه بتصرفه حتى الموت. وقد وصل إلى طرابلس فجر 16/9/1983 بينما كانت المدينة تتعرض لقصف القوى المناوئة لياسر عرفات.
ولما كانت السفينة لا تستطيع أن تصل شاطئ المدينة، فقد تم الاتفاق مع بعض الصيادين الذين كانوا، آنذاك، عائدين إلى الشاطئ لنقل ياسر عرفات ورفاقه. وعندما اكتشف الصيادون أن ياسر عرفات معهم راحوا يهزجون بنشوة عارمة. وقد حمل بعض الشبان ياسر عرفات على ظهورهم لاجتياز الأمتار القليلة التي تفصل الماء من اليابسة. ومن هناك استأجر ياسر عرفات أول سيارة أجرة مرت بالقرب منه، وطلب إلى سائقها نقله إلى مقر أبو جهاد. وعدما علم السائق أنه يُقل ياسر عرفات راح يطلق منبه سيارته ويخبر رفاقه أن ياسر عرفات قد صار في المدينة، ورفض، بالطبع، أن يتقاضى الأجرة.
دُهش العالم عندما عرف أن ياسر عرفات الموضوع تحت الرقابة اليومية للاستخبارات الاسرائيلية والأميركية وغيرها قد تمكن من الوصول إلى طرابلس ليقود مع أبو جهاد عملية الدفاع عن قواته في وجه المنشقين عليه. وفي الوقت نفسه بُهت المنشقون، وبادروا إلى تشديد القصف التدميري لمخيمي البداوي ونهر البارد. وتصاعد القتال طوال شهري تشرين الأول وتشرين الثاني 1983، ووقفت "سرايا الدفاع" التي كانت آنذاك بإمرة العميد رفعت الأسد على الحياد، بينما قدمت الوحدات السورية الأخرى الدعم لمناهظي ياسرعرفات. وفي 3/12/1983 بدأت قوات فلسطينية هجوماً كاسحاً على مواقع حركة فتح أدى إلى احتلال مخيمي البداوي ونهر البارد ومحاصرة مدينة طرابلس. وبعد مفاوضات عسيرة شاركت فيها أطراف عربية ودولية تم الاتفاق على مغادرة ياسر عرفات وقواته مدينة طرابلس بحراً. فغادر بالفعل هذه المدينة في 20/12/1983 ومعه خليل الوزير (أبو جهاد) ونحو خمسة آلاف مقاتل على متن خمس سفن يونانية تحميها سفن حربية فرنسية. وتوجه المقاتلون إلى العراق واليمن الشمالي، بينما توجه خليل الوزير إلى تونس. وفي طريقه إلى اليمن عرج عرفات على القاهرة في 22/12/1983 والتقى الرئيس المصري حسني مبارك منهياً بذاك قطيعة بين منظمة التحرير الفلسطينية ومصر استمرت ست سنوات، اي منذ زيارة الرئيس أنور السادات القدس في 19/11/1977.
الانتفاضة
شُغل ياسر عرفات طوال العام 1984 بإعادة ترسيم البيت الفلسطيني. وما كاد العام 1985 يطل حتى اندلعت في وجهه الحرب على المخيمات التي قادتها منذ 19/2/1985 حركة "أمل"، ثم لم تلبث "جبهة الإنقاذ الفلسطينية ان وُلدت في دمشق في آذار 1985 لتدّعي أنها تمثل الشعب الفلسطيني وليس ياسر عرفات أو منظمة التحرير الفلسطينية. وفي 1/10/1985 أغار الطيران الاسرائيلي على مقر المنظمة في تونس، وكان الهدف قتل ياسر عرفات، لكنه نجا. وأيقن أبو عمار حينذاك أن ثمة اتجاهاً لشطب م.ت.ف. من السياسات الاقليمية، وكما أعلن ياسر عرفات لدى خروجه من الأردن شعاره المشهور :"يا سارية.. الجبل، الجبل"، فقد أعلن قبيل خروجه من بيروت أنه ذاهب إلى فلسطين. وهكذا شرع خليل الوزير بعمل دؤوب لترسيخ مكانة منظمة التحرير الفلسطينية لدى سكان الأراضي الفلسطينية المحتلة، وشجع على بناء كثير من المؤسسات الحيوية مثل "جمعية الدراسات العربية" في القدس التي أدارها فيصل الحسيني، وصارت العلاقة بين الخارج والداخل تنمو، بالتدريج، حتى صارت يومية، من خلال مكاتب في الأردن وفي قبرص، فضلاً عن تونس.
إن هذا الجهد كله، كان المقصود إليه هو ترسيخ فاعلية منظمة التحرير الفلسطينية، والحؤول دون شطبها في أي حال من الأحوال، والمحافظة على استقلالية قرارها. وقد أينعت هذه الأزاهير كلها. فما أن اكتشف الفلسطينيون أن الأنظمة العربية ادارت لهم ظهرها في القمة العربية الطارئة في عمان في 8/11/1987، حتى كانوا يعلنون انتفاضتهم في 8/12/1987، هذه الانتفاضة التي أعادت منظمة التحرير الفلسطينية إلى الخريطة السياسية العربية والدولية معاً، وأعادت إلى الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج ثقته بنفسه، وجعلت عيون العالم تلتفت مجدداً إلى فلسطين.
في تلك الفترة كانت عدة متغيرات تجري في المنطقة. فقد أعلنت ايران موافقتها على "تجرع كأس السم" بحسب تعبير الأمام الخميني، ووقف الحرب مع العراق في 12/7/1988. لكن الملك حسين تخلى، فجأة، عن مسؤولياته في الضفة الغربية، وتوقف عن دفع رواتب الموظفين القدامى فيها، وترك منظمة التحرير الفلسطينية في مواجهة اسرائيل وحدها. لكن انتفاضة الحجارة التي كانت فاعليتها تتصاعد يومياً تمكنت من أن تفرض نفسها بقوة على السياسيات العربية، على الرغم من إقدام اسرائيل على اغتيال ثلاثة من أبرز كوادر الانتفاضة في قبرص في 14/2/1988 هم: باسم التميمي ومحمد بحيص ومروان كيالي، ثم اغتالت خليل الوزير في تونس في 16/4/1988. وفي الأثر عُقدت قمة طارئة في الجزائر في 7/6/1988 كُرست لدعم الانتفاضة.
إن فشل الحرب على المخيمات في القضاء على وجود منظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، ثم اندلاع الانتفاضة نفسها جعلا منظمة التحرير الفلسطينية مجدداً لاعباً مهماً في الشرق الاوسط. وكان ياسر عرفات، في خضم التبدلات الكثيرة التي عصفت بالمنطقة العربية، قد خطا خطوة إضافية نحو الغرب، فصرح لجريدة "واشنطن بوست" (15/5/1985) أنه على استعداد للاعتراف بالقرار 242 إذا اعترفت الولايات المتحدة بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وفي 13/9/1988 قام بأول زيارة له إلى البرلمان الأوروبي في سترا سبورغ، ما مكّنه من وضع أولى خطواته على طريق طويل ومعقد وشائك أوصله إلى إعلان اتفاق المبادئ في أوسلو سنة 1993.
إعلان الاستقلال
استثمر ياسر عرفات هذه الانجازات في عقد الدورة التاسعة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في 12/11/1988. وفي ختام هذه الدورة، أي في 15/11/1988 قرأ ياسر عرفات بحضور بعض أركان المعارضة الفلسطينية أمثال جورج حبش نص إعلان الاستقلال الفلسطيني الذي صاغه الشاعر الكبير محمود درويش، وفيه تأكيد على نبذ الارهاب وعلى السعي سلمياً إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة بحسب قرارات الشرعية الدولية. وعلى الفور اراد ياسر عرفات أن يذهب إلى مقر الأمم المتحدة في نيويورك حاملا بيده هذه المرة "وثيقة الاستقلال"، لكن جورج شولتز رفض منحه تأشيرة دخول إلى نيويورك، فكان أن انتقلت الجمعية العام للأمم المتحدة إلى جنيف في 13/12/1988، مع ممثلين لـ 159 بلداً، بينهم 50 وزير خارجية للاستماع إلى كلمته. وفي 3/5/1989 وصل إلى باريس في أول زيارة رسمية له إلى فرنسا والتقى الرئيس فرانسوا ميتران. وكان يردد في تلك الحقبة أن منظمة التحرير الفلسطينية قد عادت إلى الخريطة السياسية، ومن يكن له موقع على الخريطة السياسية فلا بد أن ينتزع له يوماً ما موقعاً على الخريطة الجغرافية. وفي هذا السياق تمكن من عقد المؤتمر الخامس لحركة فتح في تونس في 3/8/1989، وأعاد الوحدة إلى حركة فتح، وبرهن أن الانشقاق الذي وقع في 9/5/1983 لم يستطع أن يؤثر في الحركة، ولا سيما أن معظم الذين انحازوا إلى المنشقين في البداية، عادوا إلى صفوف فتح في ما بعد، أو انسحبوا من تنظيم الانشقاقيين تباعاً.
فاجأ اجتياح الجيش العراقي الكويت في 2/8/1990 ياسر عرفات، وارتبكت القيادة الفلسطينية أيما ارتباك في تحديد موقف قاطع من هذا الأمر. وكان ياسر عرفات قد أعلن، منذ بداية الاجتياح، أن على العراق الخروج من الكويت، ويجب حل جميع المشاكل بين الدولتين في إطار جامعة الدول العربية. ولكن إذا هاجمت الولايات المتحدة الأمريكية العراق فهو سيقف إلى جانب العراق. وقد ضاع هذا الموقف في ضجيج الأصوات الداعية إلى إخراج العراق من الكويت بالقوة مثل مصر والسعودية. وقد دفع ياسر عرفات ثمناً غالياً جراء موقفه هذا، فقطعت الدول النفطية مساعداتها المالية عنه، وحاصرته سياسياً، وشنت عليه حملة تشويه سمعة ظل صداها يتردد حتى الانتفاضة الثانية في سنة 2000، وفي هذه الأجواء اغتال أحد عملاء جماعة صبري البنا (أبو نضال) كلاً من أبو إياد وأبو الهول وفخري العمري (أبو محمد) في تونس في 14/1/1991، فشكلت هذه الجريمة ضربة كبيرة لياسر عرفات ولحركة فتح، ولا سيما أن الثلاثة هم من القادة التاريخيين للحركة، خصوصاً أبو إياد الذي اشتهر بأنه الرجل الثاني فيها.
في الطريق إلى مدريد
هُزم العراق في الحرب التي شنتها عليه قوات التحالف الدولي في 17/1/1991 وأرغم على الانسحاب من الكويت في 28/2/1991. وكان واضحاً أن ياسر عرفات سيدفع ثمن مواقفه التي لم تكن متطابقة مع مواقف مصر والسعودية والعائلة الحاكمة في الكويت. وعندما بدأ التحضير لعقد مؤتمر مدريد للسلام في الشرق الأوسط، لم تجد منظمة التحرير الفلسطينية مقعداً لها في هذا المؤتمر. وبذل ياسر عرفات جهداً حثيثاً لحجز مقعد له في علمية التسوية، وتمكن من عقد الدورة العشرين للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر في 23/9/1991 الذي جدد انتخابه رئيساً للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ومنح الثقة للنهج السياسي الذي انتهجه منذ اعلان الاستقلال في الدورة الثامنة عشرة للمجلس الوطني الفلسطيني في سنة 1988.
وكان من غير الممكن أن يُعقد مؤتمر مدريد للبحث في السلام للشرق الأوسط من دون الفلسطينيين، وكان من المحال أن تدّعي أي جهة أنها تمثل الشعب الفلسطيني عدا منظمة التحرير الفلسطينية. وهكذا تمكن ياسر عرفات، بصفته التمثيلية، من القفز إلى قطار مدريد، ولكن في إطار وفد فلسطيني- أردني مشترك. وان ذلك مجرد خطوة أولى، ثم تولى من تونس إدارة التفاوض مع الاسرائيليين.
عقد مؤتمر مدريد للسلام في 30/10/1991. وغاب ياسر عرفات عن جلسة الافتتاح، لكن ملائكته كانت حاضرة. وحين انفض هذا المؤتمر الافتتاحي بدأت المفاوضات بين وفد المنظمة برئاسة حيدر عبد الشافي وعضوية كل من صائب عريقات وحنان عشراوي.
ومنذ البداية أعلن الوفد الفلسطيني، وهو مؤلف من فلسطينيي الأراضي المحتلة، أن مرجعيته هي منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وهنا وجد ياسر عرفات ضالته، فإشراك منظمة التحرير الفلسطينية في المفاوضات هو حماية لها من الشطب، واعتراف دولي بمكانتها. وقد حاولت اسرائيل طوال فترة التمهيد لمؤتمر مدريد أن تمنع منظمة التحرير الفلسطينية من المشاركة في المفاوضات، وأن يقتصر المفاوضون على ممثلين عن سكان الضفة الغربية وقطاع غزة. ولكن هذه المحاولة خابت تماماً، لأن اسرائيل لم تجد فلسطينياً واحداً يجاهر بعدم تمثيل المنظمة للشعب الفلسطيني.
الخروج من الموت
واجه ياسر عرفات والفلسطينيون ساعات عصيبة في 6/4/1992. فينما كان عائداً في طائرته من السودان بعد تفقد القوات الفلسطينية فيه، اختفت الطائرة وانقطع الاتصال بملاحيها. وعاش الشعب الفلسطيني خمس عشرة ساعة متواصلة من الخوف والقلق والابتهال، وأيقن كثيرون أن ياسر عرفات قد قضى في طائرته بعد سقوطها في مكان مجهول. ولعل من نوادر الأحداث أن ينجو ركاب طائرة صغيرة بعد سقوطها، ومرة جديدة يبرهن ياسر عرفات أن الموت يخاف منه. ففي تلك الليلة التي انعدمت فيها الرؤية، وتاهت الطائرة في الصحراء الليبية جراء عاصفة رملية. لم يجد قائد الطائرة محمد درويش مخرجاً إلا الهبوط المائل في الصحراء، وصدم الأرض بمقدمة الطائرة، لان الهبوط العادي فوق رمل الصحراء سيؤدي إلى احتراق الطائرة، بينما الصدم سيجعلها تنشطر إلى ثلاثة أقسام، ويجنبها الاحتراق.
وأصدر قائد الطائرة أوامره بوضع ياسر عرفات في مؤخرة الطائرة وشد الأحزمة من حوله ووضع الحرامات عليه، ثم حمايته بأجساد مرافقيه الذي تكوموا فوقه. وقام الطيار بما خطط له وكان يعرف أن الجالسين في مقدمة الطائرة سيموتون على الفور. وكان في المقدمة هو ومساعده غسان ياسين. وكان الطيار الروماني قد توفي بالسكتة القلبية جراء هول المشهد. وهكذا بدأ الطيار محمد درويش بالاقتراب التدريجي المائل من الأرض حتى اصطدم بها، فاستشهد مع مساعده غسان ياسين على الفور، وانشطرت الطائرة، بالفعل، إلى ثلاثة أقسام ولم تتعرض للاحتراق، وجرح معظم من كان في مؤخرة الطائرة بمن فيهم ياسر عرفات نفسه. وقد تحدث مَن كان معه على الطائرة آنذاك، أنه صرخ فور اصطدامها بالأرض قائلاً: "ها أنا آتٍ إليك يا أخي أبو جهاد". وما إن صحا ياسر عرفات من هول الصدمة حتى تمالك روعه بسرعة، وأمر حراسه بسحب أقسام بنادقهم وحراسة الطائرة من ذئاب الصحراء التي تشتم رائحة الدم من مسافات بعيدة جداً.
ثم راح يحصي الماء والغذاء الموجود على الطائرة ليوزعه على الحاضرين بمقادير معينة خوفاً من طول الاقامة في هذا المكان، وبادر إلى تضميد جراح المصابين،. ومع أن العالم كله شُغل باختفاء طائرة ياسر عرفات، ودارت الأقمار الصناعية لتفتش عنه وعنها، إلا أن بدوياً ليبياً تمكن من أن يرشد قوة فلسطينية تحركت من معسكر "السارة" للتفتيش عن قائدها في عواصف الصحراء، ويدلها عليه بعدما أمضى مع رفاقه خمس عشرة ساعة في غبائر السديم.
أوسلو: محطة في الطريق
لم تتوصل المفاوضات بين الوفد الفلسطيني برئاسة حيدر عبد الشافي والوفد الاسرائيلي إلى أي نتيجة طوال أكثر من عام. وفي هذه الأثناء، وفي أيار 1992 بالتحديد، التقى يوسي بيلين نائب وزير الخارجية في اسرائيل تيري رود لارسن مدير معهد FAFO النروجي المتخصص بشؤون الاراضي الفلسطينية المحتلة، وتباحثا مطولاً في إمكان فتح قناة سرية للمفاوضات بعيدة عن أعين الأميركيين. وشارك يئير هيرشفيلد الاستاذ في جامعة حيفا الذي يؤمن بالحوار بين اسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، في هذه المباحثات التمهيدية. وهكذا راحت هذه القناة السرية تتطور بالتدريج، حتى صارت واقعاً عملياً، وشهدت مفاوضات شاقة بين وفدين الأول برئاسة أحمد قريع (أبو علاء) ومعه حسن عصفور وماهر الكرد، والثاني برئاسة يئير هيرشفيلد ورون بونديك. وانتهت إلى صيغة اتفاق دُعي باسم "إعلان مبادئ". وقد عرف العالم في 26/8/1993 أن الفلسطينيين والإسرائيليين توصلوا، لأول مرة منذ 45 عاماً، إلى وثيقة ربما تكون فاتحة أمل للسلام في الشرق الأوسط. وقد دُهش الوفد الفلسطيني الذي كان يتابع التفاوض العلني في نيويورك لهذه الأنباء، وأصيب بالخيبة. وعندما أذيعت نصوص إعلان المبادئ الذي صار يسمى "اتفاق أوسلو" عارضه البعض ومن بينهم الشاعر محمود درويش. لكن الأمور كانت تسير بسرعة نحو توقيع هذا الاعلان باحتفال عالمي في حديقة البيت الأبيض في واشنطن يشارك فيه الرئيس الأميركي بيل كلينتون وياسر عرفات ويتسحاق رابين وشمعون بيريز ومحمود عباس (أبو مازن).
في 12/9/1993 وصلت إلى قاعدة "أندروز" العسكرية طائرة الملك المغربي الحسن الثاني التي كانت تقل ياسر عرفات. وكان في استقباله ادوارد جيرجيان مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط. وأقام أبو عمار في فندق "آنا وستن" في واشنطن. وفي أحد مكاتب البيت الأبيض سأله موظف كبير في وزارة الخارجية" عندما ألقيت خطبتك أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سنة 1974 قلت إنك جئت تحمل بندقية الثائر بيد، وغصن الزيتون بيد. ماذا تحمل اليوم في يديك؟ فأجابه أبو عمار: غصني زيتون. فرد الموظف ماذا حل بمسدسك إذن؟ فقال ياسر عرفات: إنه يفيدني الآن في حماية السلام.
قبيل بدء احتفال توقيع إعلان المبادئ بساعات اكتشف ياسر عرفات أن اسم منظمة التحرير الفلسطينية غير موجود في ديباجة الاتفاق، فاستدعى، على الفور، أحمد الطيبي، وقال له: لم أنم طيلة الليلة الماضية، فقد قرأت نص الاتفاق واكتشفت أن فيه نقطة لا يمكن القبول بها، وهي أن الاتفاق يشير إلى "الوفد الفلسطيني" لا إلى منظمة التحرير الفلسطينية.
واتصل الطيبي بشمعون بيريز الذي بادر إلى استدعاء القانوني المعروف يوئيل سنغر، وهذا رفض إجراء أي تعديل على الاتفاق ولا سيما أن نصوص الاتفاق طبعة بآلاف النسخ، وسيجري توزيعها على الصحافيين بعد انتهاء الاحتفال مباشرة. لكن ياسر عرفات قال للطيبي: قل لهم إنني سأرجع فوراً إلى تونس ما لم يتغير النص. وأمام إصراره أعيدت طباعة صفحات جديدة تتضمن عبارة "وفد منظمة التحرير الفلسطينية"، واستبدلت في آخر لحظة، وجرى توقيع الاتفاق في حديقة البيت الأبيض في 13/9/1993 وشهد العالم آنذاك المصافحة التاريخية بين يتسحاق رابين وياسر عرفات. وصار ما قبل ذلك التاريخ تاريخاً وما بعده تاريخاً آخر.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها