لمن لم يعرف ياسر عرفات ولمن فاته زمن هذا الرجل، فإنه صانع هوية فلسطين الحديثة بكل معانيها وأبعادها. هو الذي حوّل فلسطين من مجرّد قضية لاجئين إلى قضية سياسية- إنسانية- تحرّرية بامتياز. فأصبحت فلسطين قبلة حركات التحرّر والأحرار في العالم. ديناميكيته وشخصيته المرنة حوّلت كوفيته إلى رمز يتجاوز مسألة وطن إلى شعار للتحرر والعدالة. لم يقاطع رئيسا ولم يعلن العداء لأحد، لعلمه بأهمية قضية شعبه وبأنها- القضية- سيدة الباحثين عن الحلفاء والمؤيدين، ولعلمه بعداء واستهداف هذا النظام أو ذاك له ولقضيته. وفوق ذلك كان للرئيس الشهيد شبكة علاقات دولية غير عادية يستفيد منها في المجالات الدبلوماسية والمعلوماتية التي طالما استثمرها كمظلة تقي الشعب الفلسطيني مكائد وجرائم العدو.
آمن وبشكل مطلق بالتعددية السياسية والثقافية داخل البيت والقضية واعترف بغابة البنادق محرّما دم الفلسطيني على الفلسطيني. لأنه كان يؤمن بأن جداول العطاء الفلسطيني تصبُّ كلها في نهر القضية، مما يفعّل ويحدّث ويجدّد أشكال وأساليب النضال الوطني في وجه المكر والعدوان الصهيونيين.
الشعب الفلسطيني المناضل وثق بياسر عرفات وأعطاه تفويضا لا يعطى لأي قائد آخر، وبالتالي احترم القائد الشهيد هذه الثقة التي دفع ثمنها حياته، بحيث قاوم وفاوض وناور دون كلل أو ملل. وهو الرجل الوحيد الذي استطاع حمل غصن الزيتون بيد بالأخرى البندقية في الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي مقره بالمقاطعة ايضا. جزء هام من تغييب ياسر عرفات هو تحريم التعامل بمثل هذه المعادلة والقصاص من أي قائد يجرؤ على تكرارها.
عندما ندقق بالحالة التي وصلنا إليها خلال السنوات القليلة الماضية، ندرك أن الإدارة الأميركية بالتكافل والتضامن مع الحكومات الصهيونية، هي التي خططت ورسمت ومهَّدت لإنتاج مشهد آخر يستجيب لحيثيات سياستها بدقة متناهية.
المشهد الآخر الذي نجحت الإدارة الأميركية في تعميمه على الساحتين الفلسطينية والعربية هو التطرف، تحت شعارات ولافتات متعددة، كالإصلاح ومحاربة الفساد والمقاومة وعدم التفريط بالحقوق الثابتة والمقدسة. فيما واقع الحال أفضى عن خواء شعاراتي، وتباعد ساحق بين مضمون اللافتة وترجمة السياسة التي كتبت عليها بكل وضوح.
التطرف هو الصيد الثمين للعقلين الأميركي والصهيوني، حيث سادت وتسود فلسفة العبث والتخريب دون أية روداع أخلاقية أو دينية. والتطرف الأخطر هو الآتي تحت عناوين دينية، تقدّس العنف ولا تتورّع عن استهداف الآخرين تحت عناوين التكفير وتطهير الأرض من الذين هو بنظرهم رجس يجب إزالته. كما أن التطرف هدف صهيوني ثابت يبرر للإحتلال كل فظاعاته وجرائمه وتماديه على الحقوق الإنسانية والوطنية للشعب الفلسطيني، دون أن يلاقي اعتراضا أو شجبا أو إدانة دولية او قانونية. هو يكرس مشهد المقارنات حول سلوكه تجاه الشعب الفلسطيني وسلوك العرب والمسلمين تجاه بعضهم البعض، وبذلك يديم احتلاله ويتحرر من البعد الأخلاقي- الإنساني تجاه الظلم التاريخي الذي مارسه ويمارسه بحق الآخر... أي الفلسطيني والعربي.
الذي لم يكتشفه الكثيرون حتى الآن، بما فيه ما تبقى من النظام العربي، أن طغيان التطرف ووصوله إلى الحد الذي نشهده اليوم هو نتيجه حتمية للطريقة التي تم التعامل بها ضد الإعتدال، بصفته خطاباً واضحاً- منطقياً ومؤمناً بالآخر- من خلال تسوية تاريخية تحفظ وجود الشعب الفلسطيني وتعترف بالمقابل بوجود دولة أخرى متكافئة الحقوق والواجبات معها وملتزمة بالشرائع والقوانين الدولية.
والذي لم يكتشفه ما تبقى من النظام العربي حتى الآن، أن اللحظة التي قرر خلالها الأميركي والإسرائيلي أن الشهيد ياسر عرفات لم يعد ذا صلة بالسلام وبالتالي استمكل القرار بالقتل المتعمّد للرئيس الشهيد، هي نفسها اللحظة التي فتحت فوهة بركان العبث بالساحة العربية من محيطها إلى خليجها... بالطبع المسألة مرتبطة بتداعيات وآليات متدحرجة وفق خارطة الأولويات التي تعمل الإدارتان الأميركية والإسرائيلية بموجبها.
إن اللحظة التي أتخذ فيها قرار تغييب الرئيس الشهيد ياسر عرفات، هي نفسها اللحظة التي أعلن خلالها فشل فرض مخطط الإستسلام عليه في كامب ديفيد... والكل يعلم بالتهديد المباشر الذي وجهه إليه الرئيس الأميركي بيل كلينتون، والرد الواضح للرئيس الشهيد عليه.
ترك الشهيد ياسر عرفات من قبل غالبية الأنظمة العربية، استجابة للإملاءات الأميركية التي كانت تهدف إلى تمرير تسوية فاضحة على حساب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، خاصة وأن الإدارة الأميركية اعتقدت خلالها أن الرئيس عرفات ضعيف ووحيد ووجها لوجه أمام سطوة الرئيس الأميركي مباشرة.
فيما كان لبعض النظام العربي أجندته الخاصة والقاضية بمعاقبة تاريخية للرئيس الشهيد من خلال الشراكة مع الآخرين بمحاصرة ياسر عرفات بين جدران بقايا غرفة في المقاطعة، مما شكل الترخيص العربي المثالي للمساس بحياة الرئيس الفلسطيني. الأوامر الأميركية التي استجابت لها غالبية النظام العربي دليل ارتهان هذه الأنظمة ودليل حاجة لتخليها عن القضية الأثقل عليهم. فيما كان بعض هذا النظام يعتقد أنه يعاقب ياسر عرفات على عصيانه في عدم السماح لأحد باستثمار القضية الفلسطينية في تحسين شروط إقليمية ودولية.
إن العدوان الأخير الذي سوّقه الصهاينة تحت عنوان "محاربة حماس" لم يكن ليحصل بهذا المستوى من الإستهداف الإجرامي المباشر للآمنين في قطاع غزة لولا نجاح العدو في تسويق فكرة محاربة التطرف، الذي يشكل موضة العصر. بالمقابل خدمت التدخلات الخارجية- قطر وتركيا- بوعي أو دون وعي- تمادي العدوان في القتل والتدمير، حين جرى استثناء المعني المباشر- أي القيادة الفلسطينية، والمعني المباشر عربيا- أي مصر، بمعنى استسهال منح هاتين الدولتين- قطر وتركيا- صك استثمار فلسطيني على حساب غزة وفلسطين على السواء، وهو الأمر الذي لم يكن مسموحًا به من قبل، لأن تمادي حماس في تكريس مسألة الإنقسام وإصرارها على تحييد الآلة الديبلوماسية الرسمية عن دائرة الفعل وتشديدها على كونها نقطة ارتكاز المعادلة الفلسطينية هي التي ضاعفت كلفة العدوان الصهيوني دون أية إنجازات فعلية تذكر.
فمن جهة لم يكن في وارد المتدخلين في الشأن الفلسطيني تصليب ودعم فكرة الصمود ومؤازرة المقاومة، بل تحصين حماس- الأخوانية- من محاولات استعادتها إلى الصف الوطني الفلسطيني ظنا منهم- المتدخلون- بأنه لم يزل أمامهم فرصة استعادة مصر أو على الأقل إبقاء قطاع غزة المصادر من قبل حماس الخاصرة الرخوة في الجسد المصري المنهك.
إن تغييب الشهيد ياسر عرفات عن المشهد الفلسطيني- العربي لم يكن التفصيل العابر في الحالة العربية، إنما كان التمهيد لسلسلة تدخلات لم ولن تنتهي أبدا. فتحويل الأقطار العربية إلى كيانات ممسوخة- متصارعة هو الهدف الأميركي- الصهيوني المباشر إستباقا لأية فكرة مستقبلية قد تزعزع أمن واستقرار المشروع الصهيوني في المنطقة قاطبة.
إن الشهيد ياسر عرفات وإلى جانبه بعض النخب العالية الثقافة كان يدرك جيدا أن كل ما تخزّن في الذاكرة العربية منذ نكبة العام 1948 وحتى استشهاده هو نتاج حضور وتأثير القضية الفلسطينية، أي أن الوعي الرسمي والشعبي العربي قد جرى تصميمه وفق خارطة القضية الفلسطينية. فالنظام المستبد ومعه بعض القوى الحالمة أو المستأجرة استثمر وبقوة متناهية شعار تحرير فلسطين لإدامة أمد حكمه وبالتالي مارس القمع والظلم بحق شعبه ونخبه تحت تلك اللافتةة، وصولا إلى محاولة اسقاط رؤيته وفرديته على القضية وأهلها دون هوادة أو رحمة. كما أن بعض القوى التي عملت تحت شعارات ثورية وتحررية سقطت في فخ تلك الأنظمة فجرى استثمارها وتحويلها إلى قوى مرتزقة في وجه أهل القضية بدل أن تسهم في دعم القضية وأهلها.
لم يأتِ التطرف نتاج مؤامرة أميركية- صهيونية بعيدا عن الأرض الخصبة التي مهّدها النظام العربي، بل أتت تطابقا مع واقع جرى إنتاجه ومراكمة أسبابه منذ نشأة هذا النظام وحتى يومنا هذا.
إن مقارنة بسيطة بين عهدي الرئيس الشهيد وخلفه الرئيس محمود عباس تؤكد زيف الإدعاء الصهيوني وأكذوبة السلام التي استشهد بسمّها ياسر عرفات. فالصهاينة يعلنون الآن أن الرئيس محمود عباس هو الخطر الاكبر على الكيان الصهيوني، كونه يجيد تأليب الرأي العام الدولي ضد إسرائيل، ويبذل الجهود المكثفة في سبيل زيادة مقاطعته وحصار إسرائيل. لماذا؟ لأن ما هو ثابت فلسطينيا لا يمكن أن يتنازل عنه أحد. فالذي لم ينجح الصهاينة في فرضه على القيادة الفلسطينية هو العمل بعقلية واقع ما بعد ياسر عرفات، أي الواقع الجديد المتجاوز للخطوط الحمر والثوابت، وبالتالي القبول بأية تسوية يمكن أن يفرضها الصهاينة من خلال الإدارة الأميركية. لذلك لا يتردد الصهاينة في استعادة الأوصاف والمواقف والتهديدات نفسها التي نعت بها الرئيس عرفات سابقا وبموجبها تمت تصفيته، وهي تستعاد الآن بمواجهة الرئيس محمود عباس الذي شكل طاقة دبلوماسية هائلة بوجه الآلتين الأكثر تأثيرًا في السياسة الدولية- نقصد الآلة الأميركية والصهيونية.
لمـاذا جرى تغييب الرئيس الشهيد ياسر عرفــات؟
03-12-2014
مشاهدة: 1493
محمد سرور
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها