القيادة لا تُصنع ، ومن المستحيل "توقر انسانا" ما لم تتوافر فيه صفات القائد ، وهذه الصفات العديدة والمتنوعة في مختلف مكونات الشخصية الانسانية من كاريزما وذكاء ورجاحة عقل ورقة مشاعر تجاه الاخر وسعة صدر بالتعامل والحكمة   في معالجة الامور والتصدي لها وقوة الذاكرة بحيث لا ينسى المرء ما جرى معه قبل مدة او ينسى الوجوه التي قابلها. كل هذه الصفات التي ذكرناها يجب ان تتوافر في شخصية القائد لتنمي الموهبة الالهية التي وهبها الله لهذا الانسان ليتأهل لقيادة ما في امر مهم يفيد الناس ويرضي الله، يضاف اليها سلامة الخطاب ليستطيع فتح قنوات التواصل مع الاخرين خارج اطار القرابة او العشيرة.
وهذا الخطاب يتحلى بالمنطق وقوة الاقناع والوضوح في طرح الامور ليخوض تجربة تختمر مع تكرار التجارب وتشكل نظرية او قانونا" يستحوذ اعجاب الجماعة فتجتمع حول شخصه وفكره وتدعم مسيرته لتصبح جزءا" من كل.
هذه المقدمة تقودنا الى شخصية الشهيد ياسر عرفات القائد والحكيم والختيار- كما كنا نحب اطلاق التسمية عليه دلالة على عمق حكمته وصفاته المختمرة بالتجربة الغنية والفكر الناصع والانسانية الطيبة في تعامله معنا وقيادته لنا وابلاغنا بالاهداف المرتجاة ، لا يتهاون رغم رقته ولطافته، حاسم حازم حنون، عادل حد التطرف في اتخاذ ما يراه صائبا" ومناسبا".
ذكاؤه اذهل خصومه واعجب اصدقاءه وطوع اتباع خطه. وقد اورد كلينتون الرئيس الاميركي، في مذكراته ان الوحيد الذي استطاع تمرير ما يريد وخدعه هو ياسر عرفات. واذكر في اوائل الستينات مقالة قرأتها في مجلة الطليعة المصرية بقلم رئيس تحريرها لطفي الخولي الذي أماط اللثام عن ابي عمار باسمه وصفته مع صورة (رسم) له ويروي سفره على ذات الطائرة الرئاسية مع المرحوم جمال عبد الناصر الى الاتحاد السوفياتي، حيث جرى تقديمه للمرة الاولى الى القادة السوفيات آنذاك.
ويستتبع لطفي الخولي الى ان ياسر عرفات استحوذ على اعجابهم وفكرهم وبدأت صداقته معهم صداقة ثائر طموح صاحب حلم كبير هو تحرير فلسطين.. وابتدأت المسيرة لأعقد ثورة وأعظم مسيرة :
كيف يجمع الشتات الموزع على اقطار الامة العربية؟ كيف يوحد هدفهم؟ كيف يؤطر الاجيال التي ولدت خارج الوطن؟ كيف يعيد صياغة التنشئة ، والفكر لناشئة عاشت الحرمان وعانت ظلم سلطات المضيفين؟ وقد تنوعت اشكال المعاملة لهم واشكال التنشئة والتربية حتى باعدت بين همومهم، اذ طفا الهم اليومي- هم البقاء وتحسين شروطه؟
ذلك هو القائد الذي تعرفت اليه بعد نكبة 1967 مباشرة. ولم أره عابساً الا بعد مبادرة روجرز اوائل السبعينات من القرن الماضي.
كان يتفقد المقاتلين الرابضين على مقربة من حدود الوطن، يطل عليهم في الليالي الباردة، يشرف شخصياً على وسائل التدفئة والخيم والملبس الواقي من البرد ويستمع لشكواهم ومطالبهم وندر ان اشتكوا انما كانوا يتطلبون العمل بدافع الحماسة والاخلاص.
ختاما" اروي قصة تخصني معه.. حدثت سنة 1978 بعد اشكال حدث لقريب لي وهو المخطئ ولا مجال للتفصيل في هذا الاشكال، حملت ما لدي من عهدة (سلاح وذخيرة وأوراق) وتقدمت بطلب استقالة قدمتها مباشرة له .. ابتسم وقال انت تعرف ان حركة فتح لا يوجد في نظامها الداخلي استقالات، انما تجميد او فصل يعقب خطأ" فادحا". والتجميد او الفصل هما عقوبتان قاسيتان. لذا ارفض الاستقالة وما عندك لا يستحق احدى العقوبتين، ادعك ترتاح لأن الدنيا سبع بحور وأنت عصفور، وفتح قعقور ستحط عليه حين تتعب من الطيران ...
وبعد اشهر قليلة ، كان المرحوم والدي يخضع لعملية جراحية في مستشفى بيروت واحتاج لدم بحالة طارئة ولا املك المال لتأمينه ولم اهتد لمتبرعين، والحيرة تقتلني، اذ صادف مرور بعض الاخوة من خاصته ومكتبه، سلموا وتعانقنا وسألوا عن سبب وجودي في المستشفى، لم أخبرهم عن حاجتي، انما ذكرت انني مع الوالد.. دخلوا سلموا عليه وخرجوا بهدوء ليعودوا بعد ساعة بأكثر من سيارة عسكرية ومعهم اوامر باقتيادي الى مكتبه في الفاكهاني طوعا" او قسرا"..
امتثلت .. لدى وصولي كان غاضبا"، بدأ باللوم والتعنيف لماذا لم اخبره ان والدي في المستشفى ؟؟ ولم يطالبني بالعودة الى ما كنت عليه.. وبعد وقت من الغضب الذي لم اشهده سابقا" طلب الى ذات الاخوة اعادتي الى المستشفى .. وعدت لأرى كل الحاجات قد احضرت وتوفر الدم والمتبرعون ولم التق به الا بعد مرور اشهر في القطاع الاوسط في مبنى اعتاد ان يجتمع فيه بالأخوة المسؤولين وقادة القطاعات، ومسؤولي التنظيم الشعبي اللبناني.
هذا هو القائد.. هذه بعض صفاته.. وهذا غيض من فيض ما عهدته وعرفته وصادفته ولامسته في حكمة الختيار وأنا اليوم واثق ان الأمة العربية ستكتشف ولو بعد حين أن الله ينعم عليها بقادة لا يتكرر امثالهم.