ثمة شعار كنا نردده منذ عقود يقول باختصار شديد «إنه إذا انصلحت الأوضاع داخل فتح، فإن ذلك سيؤدي إلى انصلاح أحوال الساحة الفلسطينية!!!» وأعتقد أن هذا الشعار يبدو أكثر إلحاحا هذه الأيام، وليس ذلك من قبيل التعصب الحزبي، وأنا شخصيا لم يعرف عني أنني أنتمي إلى أي من نماذج التعصب والانغلاق الحزبي !!! ولكني أوافق بدون تحفظ على ذلك الشعار الجميل والصادق الذي يعطي حركة فتح دورا محوريا ومصيريا بالنسبة للحالة الفلسطينية، وذلك لأسباب موضوعية أن فتح هي التنظيم الأكبر والأقدم في الساحة الفلسطينية الذي يعمل تحت السقف الوطني بدون اندماج أو ذوبان في تكوينات أكبر منه دينية كانت أم قومية أم يسارية !!! أو أن المشروع الوطني القائم على إعادة انبثاق الكيانية الفلسطينية، ولملمة الهوية الوطنية قام على يد فتح، وأن حركة فتح هي الأكثر دراية بمدخلات ومخرجات واستعصاءات وصعوبات واحتياجات هذا المشروع الوطني، وأن فتح نشأت على امتداد كل المراحل في الاهتداء إلى البدائل التي تجعل هذا المشروع الوطني حياً أولاً، وحاضراً ثانياً، ومصدر تأثير أيضا.
و الاهتداء إلى البدائل الصحيحة رغم صعوبتها، لم ينشأ عند فتح من الفراغ، وإنما من عمق الانخراط في الهم الوطني، وعدم التشتت مع الضجيج القائم آنذاك مهما كانت العناوين الأيدلوجية لذلك الصراخ، ذلك أن فتح على سبيل المثال لم تكفر أحدا، واعتبرت أن أساليب التكفير ليست سوى هروب من الأسئلة الواقعية الملحة !!! ولم تخون أحدا، واعتبرت أن أساليب التخوين نوع من الزيف والخداع !!! بل انخرطت في الهم الوطني إلى أقصى مدى، وهذا الانخراط جعلها تنفتح على عديد من الرؤى والبدائل والخيارات الصائبة فعلا، والصعبة جدا.
فقد كان خيار إطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، خيارا مفاجئا وصادما للعديد من القوى في حينه !!! وكذلك تجديد الانطلاقة بعد هزيمة الخامس من حزيران عام 1967، ولم يرعبها الشكل الظاهري القائم بأن جيوشا كبرى انهارت في غمضة عين، بل رأت ما لم يره الآخرون، رأت العناصر الموضوعية العميقة للقضية قائمة وأكثر فرصة للتجلي، وجاء قرار معركة الكرامة في السباق نفسه، كان القرار مخالفا للمنطق الشكلي، مناقضا لقوانين حرب الشعب، ولكنه كان صائبا ومنسجما مع اللحظة الخارقة في المكان والزمان.
و في نفس السياق، جاءت قرارات الدفاع المستميت عن استقلالية القرار الفلسطيني، ونموذج الصمود الأسطوري في بيروت، وقرار الانتفاضة داخل أرض الوطن ضد الاحتلال بكل هياكله !!! وقرار الذهاب إلى مؤتمر مدريد رغم شروطه المجحفة، وقيام السلطة الوطنية، ومسلسل المفاوضات، وتجميده المفاوضات، والذهاب إلى الأمم المتحدة.
بدائل في الزمن الصعب، بدائل في لحظات الاستعصاء، بدائل أمام ما كان يظنه البعض جدارا مغلقا، بدائل نحو ضوء جديد من الاشتباك مع الاحتلال الإسرائيلي بصفته العدو الرئيسي.
الآن، نحن في حركة فتح، تفرض علينا مسؤوليتنا تجاه قضيتنا وشعبنا أن نتيح المزيد من الرؤى، وأن نتهيأ لنوع جديد من الخيارات والبدائل، ولا مفر أمامنا سوى أن ننجح في ذلك !!!
العقبات كثيرة ومعروفة، فهناك الانقسام هو حالة غير مسبوقة، وهناك الضجيج الداخلي الذي تراه يصم الأذان، ويشوش العقول، ويحرف الاتجاهات، مع أنه ضجيج على لا شيء، ومن أجل لا شيء، ولا يوصل لأي شيء.
هل هذا الضجيج مقصود ؟؟؟
نعم، أنا اعتقد أن هذا الضجيج المبالغ فيه والقائم على تفاصيل هامشية هو ضجيج مقصود، أن نغرق في الصغائر، أن نلتهي فيما لا طائل من ورائه، أن نحرق الجهد والأعصاب والنسيج الفتحوي نفسه في متواليات الأحقاد والأوهام الصغيرة.
و لكني استبعد تماما أن يكون المتورطون في هذا الضجيج يعرفون خطورة ما ينزلقون إليه، أشك في ذلك، بل هم جزء من حالة مفتعلة، وهم لا يتبينون ذلك، يغرقون بدون وعي، اللحظة بالنسبة لهم معقدة ولا يستطيعون فك طلاسمها فيهربون إلى الأسهل، والأسهل في هذه الحالة معاداة الذات، إيذاء الذات، النكوص إلى الوراء، إعلان شأن البغضاء الصغيرة، وتصغير حجم الخطر المحدق، ودائما، وفي أي شعب وأمة، وفي أي زمان ومكان، هناك أناس مهرطقون، يعدون كم ملاكا يقف على رأس الدبوس، بينما روما توشك أن تحترق؟؟؟
فتح، الآن، في هذه الأوقات العصيبة، ونيابة عن كل الفلسطيني، وربما نيابة عن الكل العربي، مطلوب منها أن تختلس لحظة صفاء وطني، وأن تتيح الرؤى المتفاعلة، وأن تصلح نفسها لكي ينصلح حال الجميع.
و أرجو أن تسترجع حركة فتح قدرها التاريخي، وأن تعيدنا _ مثلما فعلت دائما – إلى جادة الصواب، إلى أول الطريق