لا يخلو موقف إسرائيل الممتنع عن إطلاق الدفعة الأخيرة من الأسرى القدامى؛ من إشارات تساعد ضمنياً على الثبات على الثقة في قيادة الرئيس أبو مازن. ولعل أهم هذه الإشارات، أن المطروح على الطاولة عبر الوسيط الأميركي، هو كل ما تتضمنه معادلة المواقف مع الاحتلال، ولا شيء سواه يتعلق باتفاقات إطار أو بتدبير مسكوت عنه. بل إن الجدية الفلسطينية في التمسك بأمد المفاوضات المنتهي، لا تتداخل مع أية مجانيّة على هذا الصعيد. وربما يصبح منطقياً التوصل الى صيغة لتمديد محدود للمفاوضات، في حال التزمت حكومة نتنياهو بالوقف التام للتوسع الاستيطاني، وإطلاق عدد أكبر من الأسرى. أما اشتراط إطلاق الدفعة الرابعة من قُدامى الأسرى، باستمرار النشاط الاستيطاني، فإنه يكرّس المفهوم الذي فسرت به حكومة نتنياهو لجماعاتها المتطرفة، قبولها للإفراج عن الأسرى القدامى، وأقنعتهم بأن إطلاقهم يمنح قيادة الفلسطينيين مكسباً أقل من تكتيكي، مقابل أرباح استراتيجية لإسرائيل يمثلها الزحف الاستيطاني الملتزم بخطة للتوسع في خلق الحقائق على أرض الواقع، توطئة لتجويف العملية السلمية من داخلها وعلى أرضها!

إن المصاعب والضغوط التي يواجهها الرئيس محمود عباس، لم تعد خافية على أحد، الأمر الذي يقتضي معه وقوف كل الأطياف الفلسطينية الى جانبه لتعزيز صموده وهو يستمد موقفه من إرادة شعبه. فلم يعد هناك معنى للتشكيك من قبل "حماس" أو سواها. وحبذا لو دعا الرئيس "أبو مازن" الى اجتماع عاجل للمجلس المركزي الفلسطيني، لإسماع صوت شعبنا عالياً، لكي يسمعه كل ممارسي الضغوط ومفتعلي المصاعب. وسيكون من الناقص المجتزأ، القول إن امتناع إسرائيل عن إطلاق الدفعة الرابعة من الأسرى يتهدد العملية السلمية، لأن ما يتهدد هذه العملية المعلقة على كف عفريت، هو سياق السياسة الاسرائيلية برمته. فالأسرى الذين يقدر الفلسطينيون عذاباتهم ويعدون أيام احتباسهم ويألمون لاستمرارهم في السجن؛ لم يناضلوا ولم يدخلوا السجون إلا دفاعاً عن الأرض وتوخياً للاستقلال والحرية بمعناهما الشامل. بالتالي فإن إسرائيل المتمسكة بالاحتلال ضد حرية الفلسطينيين واستقلالهم، عندما تُلقي بثقلها لتنفيذ مخططات التوسع الاستيطاني على الأرض الفلسطينية؛ تمارس فعلاً ضد أمنيات الأسرى وأمنيات شعبهم على النحو الذي لا يمكن أن يقبله الأسرى أنفسهم. فلا يقبل أي أسير، لو سُئل، أن يقايض إطلاق سراحه بإطلاق يد الاستيطان. وسيكون مجرد إحساس القيادة الفلسطينية والرئيس عباس بالمأزق في حال الامتناع الاسرائيلي عن تنفيذ ما تم الاتفاق عليه؛ هو أسطع برهان على موازنة هذه القيادة بين عاطفتها حيال أسرى الحرية وبين التمسك بالجوهري والاستراتيجي في مسألة الاستقلال والحرية والتسوية المتوازنة.

هنا، يصح القول إن ما يتعين على الأطياف الفلسطينية أن تفعله، هو مؤازرة موقف الرئيس "أبو مازن" مع التمني على الأسرى وذويهم، أن يتفهموا الموقف في حال رفضت القيادة الفلسطينية الاستجابة للضغوط الأميركية الاسرائيلية، لتمديد زمن المفاوضات دون أي التزم بوقف تام لمشروعات الاستيطان. إن ما يرغب المحتلون في تحقيقه على المدى البعيد، هو التهام أراضي الضفة، وخنق التجمعات السكانية الفلسطينية، وإدخالنا جميعاً، سواء كنا أسرى محررين أو محتبسين، أو مواطنين طلقاء؛ الى مهاجع نوم أضيق من السجون، وجعل أماكن عيشنا، بؤراً طاردة للسكان ودافعة للهجرة، بمفاعيل التضييق والملاحقة والممارسات الاحتلالية التي خبرناها.

لقد عشنا زمن السجن، في سنوات الاحتلال العشر الأولى ومطلع العشر الثانية. لم نكن ننتظر شيئاً ولا إطلاقاً من السجون قبل النصر وقبل اندحار الاحتلال. وكان النضال الفلسطيني هو معقد الرجاء وأمل الحرية، وظل صمود شعبنا وقيادته هو البلسم الشافي، على الرغم من المعاناة الإنسانية في الظروف التي كان فيها السجن بالغ الصعوبة على مستوى تفصيلات الحياة فيه.

إن التفاف كل الأطياف الفلسطينية حول القيادة ومؤازرتها في هذا المعترك الصعب، هو عينه فعل الحرية، وما الفرق بين النصر والانكسار إلا صبر ساعة!