ليس لديّ عن أبي جهاد أكثر من الانطباعات المعروفة، التي جعلته في نظري ونظر أمثالي، مثالاً للثائر الفلسطيني الصبور والحكيم والمبدئي الذي لا يهمل التفصيلات حتى لا تأكل المبدأ والقضية والثورة والحركة و«العاصفة». هذه الانطباعات وأمثالها كانت تتكون في فترة قياسية لدى كل من يقترب من أبي جهاد حتى ولو ليوم واحد. ومن هنا كثر الذين شهدوا له، لأن الشهادة له سهلة وميسرة، ومتطابقة، بحيث يندر أن يختلف عليه اثنان. وبأذنيّ سمعت المرحوم أبا صالح (نمر صالح) الموسوم بيسار فتح يتغزل بأبي جهاد الموسوم بيمين فتح... والنعتان غير دقيقيْن. ولأن الذين شهدوا له كانوا كثيرين... فقد انتشرت صورته وسمعته بين العرب. وكان أي منا إذا أراد أن يطمئن طرفاً آخر ذا حساسية إلى صدقية التفاهم والتعاون والاتفاق مع الثورة، يختار أبا جهاد طرفاً محاوراً. ولا يكذبك أبو جهاد فيقول ما عنده من دون غش ويلتزم. ويعتذر علناً إن قصُر أو قصّر.
لم يكن بميسوري الدخول في طريقة أداء أبي جهاد النضالي أو التنظيمي الحركي أو موقعه في عملية صنع القرار الفتحوي أو الفلسطيني، أما أداؤه السياسي العام فكان واضحاً، صافياً، ونسبياً. ومن هنا كان يلتبس باليسار مرة وباليمين مرة، فيقول العارفون: هذه هي فتح.
كثيراً ما أخذ أبو جهاد طريقه إلى قلوب المناضلين في بلاد أخرى، من الساندينيين في نيكاراغوا، إلى الفطاني في تايلاند، إلى الإيرانيين على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم. ولا أذكر أني رأيت أو سمعت عن هؤلاء وأمثالهم إلا من أبي جهاد. ولم أرهم إلا في أماكن عمله، من مكتبه إلى القواعد التي كان يصر على زيارتها وتفقد ما فيها، من التموين إلى التفويض السياسي إلى الأخلاق العامة، وكل ما كان يبغيه من ذلك هو مساعدتهم على التزام قيم الثورة، وكسبهم إلى جانب فلسطين... متساوياً في ذلك، أو مقارباً في الفعل والتأثير لرمزية أبي عمار وكوفيته وشعر محمود درويش ودماء دلال المغربي وباجس أبو عطوان..الخ. ولأن فلسطين أولويته المطلقة، فقد كان فلسطينياً براغماتياً مطلقاً... وكانت فلسطين تغفر لديه مساوئ أي حزب أو نظام، لأنها المطهِّر والمطهر.
من هنا جاء التباسه باليمين.. لم يكن يحمل أي مشروع لإسقاط أي نظام عربي، لكنه يتعامل مع المعارضة بنبل ومع النظام بشرف. أما إذا سقط أي نظام فإنه يسقط، في الأساس، من داخله، وهو يعلم أن ما من قوة خارجية مهما عظمت تستطيع أن تسقط أي نظام ما لم يكن قابلاً، من داخله.
كانت فتح عشيرة فلسطينية وأماً لعشائر فرعية داخلها، وكان أبو جهاد في مشيخة العشيرة الأم التي كانت تغلب أولادها في كل مؤتمر تلوح فيه غيوم الانشقاق، ثم يجتمع الجميع تحت جناحيها. مرة صعد أبو أياد المنبر في أحد المؤتمرات ليعلن، بوجهه وعقله وقلبه وصوته العميق، الإذعان للمزاج الثوري الهادر لأبي عمار متجاوزاً للمرة الألف المؤاخذات المحقة والباطلة قائلاً: إن عشيرتنا فتح وشيخها هو ياسر عرفات.
وتبادلوا القبل بعدما تبادلوا النكايات والمكايد والفخاخ المنصوبة لأبي عمار ورهطه في فتح. في هذه العشيرة كان هناك إخوة لشيخها... أو أعمام لأبنائها. منهم من يكتب ومنهم من يخطب ومنهم من يستقصي ويستخبر، ومنهم من يناور، ومنهم من يمارس الدبلوماسية السرية، ومنهم من يجمع بين هذه الأمور كلها... وكان أبو جهاد مثالاً للجميع، لأنه كان يجمع بين الجميع.
أبو جهاد في حدود ما عرفته كان العم المميز. يذهب أبناء الوالد، أو الختيار أبي عمار إليه يشكون ظلماً مقصوداً أو غير مقصود وهم يعرفون نكرانه لذاته ومعرفته لموقع أبي عمار في (سبحة فتح) كشاهد يجمع طرفي الخيط ويمنع الانفراط ولا يفكر في إضعافه أبدا. فيحل أبو جهاد المشاكل التي عقدها أبو عمار، وكان أبو عمار يرضى.. يعاتب أو يغضب لكنه يرضى في نهاية المطاف. ويستدعي من أنصفه أبو جهاد معاتباً أو مقرعاً، فيرد عليه بأنه لم يشك إلا لمن يحب أبا عمار ويحبه أبو عمار.
هذا الكلام العام يحتاج إلى تسييل.. لعلنا في استحضار سيرة هذا الرجل وأمثاله نقدم لأجيالنا قدوة تقول لها إن الالتزام والنضال والجهاد على طريق فلسطين يشرف الشرفاء ويفضح غيرهم.
يروى أن أبو جهاد تعرف الى محمد خيضر في القاهرة من خلال «أبو رؤوف» شقيق ياسر عرفات، وبعد استقلال الجزائر في سنة 1962 طلب محمد خيضر من «فتح» أن تبدأ العمل الدبلوماسي من الجزائر المستقلة، وعرض على الحركة افتتاح مكتب لها في الجزائر العاصمة. ووقعت القرعة على أبو جهاد للذهاب الى الجزائر لافتتاح المكتب وإدارته. وسافر بالفعل في سنة 1963، لكنه لم يتمكن من تسلم المكتب الموعود، فدأب على الذهاب يومياً، وطوال ستة أشهر بلا انقطاع، الى القصر الجمهوري للحصول على الإذن، وكان يبقى في مكاتب القصر الى حين انتهاء الدوام، حتى ظن البعض أنه موظف في الرئاسة. وأخيراً حاز الإذن من صديقه عثمان سعدي، واتخذ له اسماً حركياً في تلك البلاد هو «علال محمد».
أبو جهاد مثالنا الذي وراءنا، ولكنه حدد لنا موعداً بين اللد والرملة. ينام ليلاً في حمام الوزير ويتغدى الظهر في الخليل مع حمدي ويصلي المغرب والعشاء جمعا في مارون الراس مع معين ومروان وربحي.
ما زال أبو جهاد في الميدان، وعلى هذا المنوال، منذ أن بدأ العمل الجهادي في سنة 1955 حتى استشهاده في سنة 1988. كان طليعة الرصاص المقاوم حقاً، وأول الحجارة المنتصبة فعلاً.