بين النور والظلام مساحات ومسافات شاسعة، في المعاني والدلالات والانعكاسات، فالنور الوضاء، المشع حياة ودفئًا وحيوية وإبداعًا ونشاطًا. كما الشمس والنهار وتجلياتهما في حياة الإنسان، حيث العطاء الإنساني المتجدد، والنهوض بمجد الإنسان، وضخ ينابيع الأمل في عروق الدنيا، والعكس صحيح في مساقات الظلام، حيث يميل الكون في بقاع الأرض إلى السكينة والعتمة والموت المؤقت لحركة الإنسان ونشاطه الدؤوب، شبيه الاستعمار ووحشيته، الذي يجثم على أنفاس الشعب، يقبض الأرواح ويعتقل، وينتج الموت والإرهاب والإبادة، كما يجري في فلسطين وشعبها الأبي، المناضل من أجل الحرية والسلام، وصناعة الفجر الجديد للأطفال والنساء والأجيال كافة.
المتضامنون الأمميون كما بقعة الضوء والنور الرائعة، الذين تحفزهم أرواحهم ووعيهم البديع وأخلاقهم الرفيعة في حمل راية التكافل مع الشعب العربي الفلسطيني، وإضاءة شمعة جديدة للأخذ بيدهم، والتأكيد لهم، أنهم ليسوا وحدهم في مواجهة عتمة الاحتلال والجريمة، والشد من أزرهم، وبعث الدم في عروق حياتهم، إنهم أيقونة خالدة في سجلهم الشخصي، وسجل الشعب الفلسطيني البطل، الذي يكابد النكبات والكوارث الفاجعة من ويلات المستعمر الفاشي، وظلماته السحيقة.
عائشة نور الأميركية التركية الأصل، وغريتا تونبرغ السويدية، شمعتان من نور، أضاءتا سماء فلسطين كل من موقعها، وشكل عطائها، وإبداعها في الدفاع عن الشعب الفلسطيني، واجهتا عنف وإرهاب الدولة المارقة والخارجة على القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي والمنظمات الصهيونية في بقاع الأرض رديفة دولة الإبادة الجماعية، وحملتا مشعل الحرية، تضامنًا ودفاعًا عن قضية إنسانية وسياسية عادلة، قضية حرية وعدالة إنسانية وسياسية وقانونية للشعب الفلسطيني، آخر شعب من شعوب الأرض يكافح على مدار ما يزيد عن القرن من أجل استقلاله وانعتاقه من ظلام الاستعمار الكولونيالي الإحلالي الإجلائي الصهيوني، الذي تسانده وتقف خلفه بزعامة الولايات المتحدة الأميركية.
مضى أسبوعان على استهداف قناص إسرائيلي المناضلة الأممية عائشة نور ازغي ايغي في قرية بيتا جنوب مدينة نابلس تحديدًا يوم الجمعة 6 أيلول/ سبتمبر الحالي، أثناء مشاركتها التضامنية مع أبناء الشعب الفلسطيني في رفض الاستيطان الاستعماري في المنطقة، وإعادة إحياء مستعمرة أفيتار على جبل أبو صبيح، ورغم أنها لم تكن في مقدمة الصفوف، إلا أن القناص الصهيوني القاتل استهدف المناضلة الأممية بشكل مباشر، وفي استهداف واضح لها، ليرسل غلاة الاستعمار الإسرائيلي رسالة للمناضلين الأمميين من مختلف الجنسيات، أن مصير كل إنسان يتضامن مع فلسطين وشعبها، مصيره الموت، بهدف الحؤول دون تجثمهم عناء السفر والمجيء لفلسطين، والمشاركة في الوقفات الاحتجاجية السلمية ضد الاستيطان الاستعماري الإسرائيلي. لأن قادة دولة إسرائيل الفاشية وأجهزتها الأمنية وجيشها القاتل لا يقبلون القسمة على السلام والحرية والتعايش واستقلال فلسطين، فهذا خط أحمر بالنسبة لهم، ولن يتورعوا عن اغتيالهم، وقتلهم بدم بارد أيًا كانت جنسياتهم وخلفياتهم الإنسانية. كما فعلوا مع راشيل كوري الأميركية في آذار/مارس 2003، عندما قتلتها جرافة إسرائيلية عسكرية في مدينة رفح، وهي تهدم البيوت.
وجرى عملية اغتيال سياسي ومعنوي للمناضلة الأممية غريتا تونبرغ السويدية، باعتبارها شخصية معادية للصهيونية ودولة الإبادة الجماعية الإسرائيلية، وهذا شكل لا يقل خطورة عن الموت الجسدي، كما حصل مع عائشة نور، حيث أطلقت منظمة "Stop Antisemitism" المناهضة لمعادة السامية على الناشطة البيئية غريتا لقب "معادية السامية لهذا الأسبوع" (الأسبوع الماضي) وفق ما نشر موقع "يورونيوز" في 17 أيلول/سبتمبر الحالي، وذلك بعد اعتقالها أثناء مشاركتها في تحرك مناصر لفلسطين، وادعت المنظمة الصهيونية المعادية للسلام والإنسانية، أن تونبرغ بدأت تحول نشاطها إلى منصة لبث الكراهية ضد اليهود. وهذا غير صحيح، لأن تونبرغ لم تعادي اليهود، بل ناهضت الصهيونية ودولة إسرائيل الفاشية وجرائم حربها المعلنة على مدار 350 يومًا من الإبادة الجماعية في قطاع غزة.
وأدانت ليورا ريز، مؤسسة المنظمة الصهيونية، الناشطة البيئية السويدية تونبرغ "21 عامًا"، مدعية أنها وضعت خطاب الكراهية ضد إسرائيل على سلم أولوياتها، رغم "الجهود التي تبذلها إسرائيل في سبيل البيئة". في افتراء فاضح على الحقيقة والواقع الماثل أمام أعين البشرية طيلة عام كامل من الإبادة الجماعية على الشعب الفلسطيني في أرجاء فلسطين المحتلة وخاصة في قطاع غزة، حيث دمرت البيئة والمكان ومعالم الحياة الآدمية والإنسان الفلسطيني.
وهذا شكل آخر من أشكال الملاحقة لأنصار السلام والعدالة الإنسانية، وإعدامهم معنويَا واجتماعيًا وسياسيًا، وتحريض فاضح على حرمانهم من أبسط حقوقهم في بلدانهم، وعلى المستوى العالمي. بيد أن هذه الأساليب الوحشية العنصرية لم تفت في عضد أنصار السلام والدفاع عن القانون الإنساني الدولي، وميثاق الأمم المتحدة، لأن أصواتهم تتعالى وتتعاظم في أرجاء الأرض والدول، وخاصة في أوساط الرأي العام الأميركي والأوروبي، كونهم متصالحين مع خيارهم الإنساني والسياسي، ومؤمنين بأن صوت العدالة والكرامة الإنسانية سينتصر ذات يوم قريب.
لروح عائشة وراشيل وكل أنصار السلام الأمميين، الذي ضحوا بحياتهم التحية والسلام، وللمناضلة الأممية غريتا كل الدعم والمساندة والتحية من أطفال ونساء وشيوخ فلسطين وقيادتهم السياسية ونخبهم من مختلف الحقول والمجالات، لأن أصواتهم شكلت وتشكل رافعة للسلام والحرية والعدالة في فلسطين المحتلة والعالم أجمع، وستبقى صور تضامنهم ومكانتهم عالية وشامخة في ذاكرة فلسطين وسجل الخالدين الأحياء والأموات جميعًا. وسيعرف الشعب الفلسطيني وقيادته كيفية تكريم وتثمين جهودهم، وإحياء ذكرى الضحايا، وإعلاء صور وأساليب التضامن مع الأحياء منهم.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها