أصبحمؤكدا ومعروفا للجميع دون استثناء خلال الخمس سنوات الأخيرة، أن سياسة إسرائيلتقوم في عملها الأول على تجميد الفعل الفلسطيني إلى أدنى مستوى، وإبقاءالفلسطينيين في حالة تدهور مستمر، وإشغال الفلسطينيين حتى النخاع الشوكي بتداعياتصراعهم الداخلي المفتوح، من خلال الإبقاء على الانقسام، وتغذية التمسك به من قبلالأطراف الفلسطينية التي صنعته، ووقعت في حفرته السحيقة بعيون مفتوحة، وإبقاء قطاعغزة يعاني تحت هذه الحالة الشاذة التي خطط لها الإسرائيليون بإبداع، لا يموت ولايحيا، خاضع بالمطلق للاحتلال ولكن دون مظاهر الاحتلال التقليدية « جيش وحواجزومستوطنين»، وإبقاء قطاع غزة تحت بند الطوارئ، الوضع المعقد الذي لا يمكن القياسعليه، غارق في مشاكله المتفاقمة على كافة الأصعدة ابتداء من الفقر المدقع،والبطالة المتوحشة، وفقدان القدرة على الانتاج وانتهاء بمشاكل الكهرباء والتمزقالاجتماعي إلى حد العداوة واليأس !!! مشاكل لا يمكن حلها مطلقا مع استمرار وضعهاالحالي، بل إن محاولات حل هذه المشاكل مع بقاء الانقسام تزيد هذه المشاكل تفاقماومأساوية !!!

أماالعمود الثاني في السياسة الإسرائيلية فهو التفرغ بالكامل للضفة الغربية والقدسبخصوصياتها المحورية في القضية الفلسطينية، وذلك من خلال إجهاض فكرة الدولةالمستقلة في المكان الذي يملك مقومات « المساحة المعقولة والسكان»، وذلك عبرالاندفاع غير المسبوق لتنفيذ برامج الاستيطان والتهويد، ورسم ملامح الضفة لتكون فيصورتها النهائية مجرد معازل محاصرة لا تمتلك مقومات وحدة الإقليم المطلوبة لقيامالدولة الفلسطينية .

الجهدالسياسي الإسرائيلي انصب في سنوات الانقسام الخمس على إفشال أي جهد فلسطيني أوعربي أو دولي لإنهاء هذا الانقسام !!! وقد استخدم الإسرائيليون صيغا وأساليبمتعددة لجعل المصالحة تبدو ضربا من المستحيل، وذلك من خلال إغراق أدوات الانقسامالفلسطينية في قضايا جديدة بديلة يتم الحديث عنها والانشغال بها ليل نهار، من بينهاالحصار الذي فرضه الإسرائيليون على قطاع غزة بنموذج خاص وخارق، حصار ذو أبعادسياسية بعيدة المدى ولكن بوسائل ناعمة، مثل الإيحاء لأدوات الانقسام بأنه تمكنإزالة هذا الحصار والركض وراء أوهام في هذا الاتجاه مثل حركات التضامن وقوافلالسفن والقوافل البرية التي استولت على العقول لسنوات خمس، موحية بأن الحصار علىوشك الزوال، وإذا بالحصار يتشرعن عند صيغة يشارك فيها العالم أجمع تحت عنوان تأمينالاحتياجات الإنسانية .

ومن بين هذه الصيغ والوسائل تحقيق متطلبات إسرائيلية مهمة جدا، كانت تتطلب فيالماضي تكاليف باهظة، ولم يعد يجري الحديث عنها الآن بصوت مرتفع، مثل الحزامالأمني الذي يحتل قرابة 25% من مساحة القطاع ولكن دون اي تكاليف على الاطلاق، فهوفي عهدة وحدات الجيش الإسرائيلي المحلية المحيطة بقطاع غزة !!!

وهناك أيضا النموذج الثالث وهو التهدئة المفروضة على قطاع غزة دون أي قدر منالالتزام الإسرائيلي !!! وكذلك طبيعة العلاقة الملتبسة بين القطاع وإسرائيل، فمازال الاتصال اليومي موجودا ممثلا بحركة البضائع والوقود وامدادات الماء والكهرباءوحركة بعض الأفراد لأغراض إنسانية وإدارية، عبر آليات التنسيق التي كانت قائمة قبلالانسحاب الإسرائيلي، وكل ذلك يجري تحت عناوين صاخبة وكأن قطاع غزة في حالة حربطاحنة يوميا مع إسرائيل.

وفيسياق هذه الوسائل، هناك الأكثر عنفا من الناحية الشكلية، مثل ملاحقة المطلوبينوعمليات الاغتيال المتكررة، والحفاظ على لعبة الانفاق على الحدود مع مصر، فهذهالانفاق تقع تحت المراقبة اليومية الكاملة ولكن بقاءها يخدم إسرائيل في توجيهالاتهامات الامنية الكبرى لقطاع غزة بتهريب الأسلحة وغيرها فالكل يعرف أن إسرائيللو لم تكن مستفيدة من لعبة الانفاق هذه لدمرتها في لحظات مثلما حدث ودمرت البنيةالتحتية وآلاف المساكن والمزارع والمصانع والورش في حربها ضد القطاع قبل ثلاثسنوات، عندما تطلب الأمر ذلك !!!

ولكنالصيغ والوسائل والأساليب التي تتعامل بها إسرائيل مع قطاع غزة لإلحاق الأذىبالمطلق بالقضية الفلسطينية، لا يقتصر على ما ذكرناه فقط، فقد تحول قطاع غزة فيسنوات الانقسام الخمس إلى قوة سياسية سلبية كبيرة أمام الانقسام الفلسطيني، ذلك أنالانقسام يخلق دينامياته بنفسه، ويراكم تحولات مشوهة كثيرة على الصعيد السياسيوالاقتصادي والأمني والاجتماعي والثقافي، وبصورة أدق فإن إسرائيل تستخدم قطاع غزةفي وضعه الحالي تحت الانقسام، كورقة اعتراض « فيتو» على أي توجه فلسطيني لصالحبلورة الدولة الفلسطينية نفسها، والحق بإقامة هذه الدولة، لأن الاعتراض « الفيتو»الإسرائيلي ينطلق من حالة قطاع غزة الراهنة مطلقا الأسئلة نفسها، دولة أي ؟؟؟ودولة لمن ؟؟؟ ومن هو الضامن لالتزامات هذه الدولة ؟؟؟

وأخر المحطات التي وصل إليها هذا الوضع الشاذ الذي صنعه الانقسام في قطاع غزة، أنالأسئلة لم تعد مطروحة فقط على الشرعية الفلسطينية بوجه عام، بل أصبح السؤال: هلالقيادة الشرعية لحماس نفسها تمثل قطاع غزة !!! وبهذا المعنى فإن قطاع غزة بصورتهالراهنة، أصبح غارزا في وحل الانقسام بصيغته الإسرائيلية، وكل محاولة للخروج منبحيرة الوحل هذه تزيد الأمور تعقيدا وتدهورا !!! ولقد رأينا كيف أصيب اتفاق مكة فيربيع 2007 بضربة قاتلة من خلال الانقلاب على حكومة الوحدة الوطنية والانقلاب علىالشرعية الفلسطينية، وكيف يتعرض اتفاق القاهرة واتفاق الدوحة إلى ضربة قوية ليسفقط من خلال الانقلاب على الشرعية الوطنية الفلسطينية، وإنما من خلال التهديدبانقلاب ضد شرعية حماس التنظيمية نفسها .

هذايؤكد أن الوضع الشاذ تحت عنوان الانقسام لا يمكن أن ينتج عنه أي شيء طبيعي، وربماأن الوضع الذي وصلنا إليه الآن لم يكن يخطر على بال الذين تورطوا في الانقسام فيأيامهم الأولى !!! وهذا يحدث لنا كما حدث لكثيرين غيرنا في المنطقة والعالم، فماأكثر القوى السياسية التي فتحت الباب بنوع من النزق والاستهتار وقلة الخبرة وإغراءالأوهام، إلى هبوب الرياح، فأخذتها الرياح العاصفة إلى مسافات بعيدة وموحشة وخطرةوفاشلة لم تكن تفكر فيها أو تخطر على بالها .

خلاصةذلك كله, فإنه على مستوى حياتنا الفلسطينية من كل جوانبها الوطنية السياسيةوالأمنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية لا بديل عن المصالحة، ولا انقاذ منالتدهور والتآكل المستمرين إلا بالمصالحة، لأننا دون المصالحة، ومع استمرارالانقسام ودينمايات الانقسام المستقلة حتى المتورطين فيه !!! ومع استمرارالاستخدام والاستغلال الإسرائيلي البشع لواقع الانقسام، نكون قد أوقعنا أنفسنا تحتحجر الطاحون الذي يسحقنا لمصلحة اعدائنا بالمجان !!! وهذه هي الحقيقة المرة التيلم يعد يقدر على انكارها أحد .