يوم السبت الماضي, بداية الربيع تحول مخيم جنين الى بانوراما مروعة متوهجة بلون الدماء الفلسطينة, حيث اندفعت جحافل الجنود الاسرائيليين المدججين بكل الاسلحة الفتاكة صوب المخيم ليحاصروه ويجتاحوه ويرسموا داخله لوحة سيريالية لفوضى العنف والموت وذعر الاطفال وصراخ النساء وهول النتائج التي اسفرت عن استشهاد ثلاثة من شباب المخيم ورابع في حالة حرجة وعشرات من الجرحى والمصابين ودمار وخراب وحرائق في بيوت المخيم.

هل بنيامين نتنياهو رئيس الحكومة لاسرائيلية وائتلافه الحاكم في اسرائيل من قادة المستوطنين والاحزاب الدينية المتطرفة يسعى متعمدا الى ارتكاب مجزرة دموية كبرى على غرار ما ارتكبه اسلافه من مجازر في دير ياسين واخواتها, لكي يخرج الحالة كلها عن ايقاعها المعهود؟

هذا السؤال محق تماما, وواقعي تماما, ويجب ان نضعه في اول الاحتمالات, لأن مسار السلوك الاسرائيلي بقيادة نتنياهو منذ بدأت المفاوضات لمتعثرة في نهاية شهر تموز الماضي يشير لهذا الاتجاه ويصب في هذا الاحتمال.

كما يعلم الجميع: فإن هذه الجولة الجيدة من المفاوضات التي بدات قبل قرابة ثمانية شهور برعاية اميركية كاملة, وبطلب والحاح وجهد مثابر من جون كيري ومتابعة مستمرة من الرئيس باراك اوباما, قد انطلقت على اساس مرجعيات واضحة اساسها الوصول الى حل نهائي بقيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من حزيران وعاصمتها القدس الشرقية, وان تكون مدة هذه المفاوضات تسعة شهور فقط في نهايتها يكون الحل قد تبلور لكي يتم تنفيذه بانهاء الاحتلال والانسحاب الاسرائيلي من ارض الدولة الفلسطينية بخطوات واجراءات متفق عليها وان يتضمن الحل النهائي الالتزامات المتبادلة بين دولتين فلسطين واسرائيل على اساس قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة وخارطة الطريق ومبادرة السلام العربية.

وبدأت المفاوضات فعلا بعقل مفتوح من الجانب الفلسطيني وعقل مغلق من الجانب الاسرائيلي, ولكنها بدات ولم تنطلق, بسبب ان نتنياهو ذهب الى هذه المفاوضات كارها, وكأنه مسحوب من رموشه, ذهب اليها لافشالها, ذهب اليها وقد اعد مسبقا سلسلة من البدع التي لا سابقة لها مثل بدعة الاعتراف بالدولة اليهودية, وهو الطلب الذي لم يطلب من الامم المتحدة ولا من شركاء السلام الآخرين مثل مصر والاردن, بل ليس هناك اتفاق عليه حتى داخل المجتمع الاسرائيلي نفسه!

وليس ذلك فحسب: بل ان نتنياهو لم يترك نوعا من التازيم السياسي والاستفزاز السلوكي والتصعيد الامني والعسكري الا واستخدمه طوال تلك الشهور الثمانية.

كنا فلسطينيا نتابع ذلك بتفاصيل التفاصيل, وكنا نعمل بجهد خارق وتعاون خارق مع الراعي الاميركي لمساعدته على النجاح, نريده ان ينجح, لأننا نريد دولتنا ومصلحة شعبنا, وكنا حين نجد الراعي الاميركي عاجزا ومصدوما ومشلولا امام هذا التعنت الاسرائيلي, نقدم المبادرات الواعية والجدية والممكنة لتفتيت نقاط الاختناق والاستعصاء التي يخترعها نتنياهو.

فعلى مستوى الهواجس الامنية الاسرائيلية المبالغ فيها, قدم الرئيس ابو مازن مبادرة بأن تأتي قوات دولية من الناتو بقيادة اميركية لتسيطر على هذه الهواجس الامنية الاسرائيلية, وكانت هناك مبادرات في القضايا الرئيسية الاخرى وهكذا ظلت القيادة الفلسطينية تتعامل مع المفاوضات بعقل مفتوح بينما اسرائيل تتعامل بمنطق التأزيم السياسي والتصعيد الامني والعسكري والاقتحامات المستفزة مثلما حدث في بيرزيت ومخيم جنين وغيرها.

منذ مؤتمر مدريد الذي شاركت فيه القيادة الفلسطينية بشروط خارقة من الاجحاف, فإن الجانب الفلسطيني عمل باقصى جهد ممكن لانجاح المفاوضات ونجاح الرعاية الاميركية, ولكننا نصل دائما الى الاختبار الاخير حين يتطلب الامر قرارا اميركيا حاسما فتضعف الادارة الاميركية عن اتخاذ هذا القرار لاسباب يعرفها الجميع.

الآن, وصلت علاقتنا مع اسرائيل الى حد يستحيل احتمالها, نتنياهو يضغط ويحقن ويعقد ويستفز الى حد الانفجار, والى حد خروج الامور عن سياقها بشكل كامل, فما هو المطلوب, هذه هي الاولوية الاولى امام الكل الوطني الفلسطيني دون استثناء.