تشهد إسرائيل انقسامًا عضويًا عميقًا، هناك صراع بين اتجاهين في المجتمع الإسرائيلي اتجاه ليبرالي متمسك بصيغة ما يسمى إعلان الاستقلال، وهو الإعلان الذي صدر بالتزامن مع الإعلان عن إنشاء دولة إسرائيل ليلة الخامس عشر من أيار/مايو 1948، وتحدد هذه الإعلانات هوية الدولة "بأنها دولة يهودية ديمقراطية"، واتجاه يميني يحصر هوية الدولة بأنها "دولة يهودية" دون الاكتراث إن كانت ديمقراطية من عدمه، اتجاه من داخل هذا اليمين يريد أن يفرض الشريعة اليهودية على الدولة والمجتمع، بأن تكون إسرائيل دولة دينية غير علمانية وغير ديمقراطية.

الانقسام بلغ ذروته مع تولي الحكومة السابعة والثلاثين، حكومة نتنياهو نهاية عام 2022، وهي الحكومة الأكثر يمينية وتطرفًا، وهي ائتلاف بين حزب الليكود اليميني وأحزاب الصهيونية الدينية، والأحزاب الدينية. نتنياهو، الذي حسم الأمر وضمن أكثرية مريحة ومتماسكة نسبيًا في الكنيست، شعر أن الفرصة التي كان يسعى إليها منذ عقود قد جاءت للقيام بالانقلاب على الجهاز القضائي، كسلطة قضائية مستقلة.

إضعاف السلطة القضائية، ومحاولة السيطرة عليها، هو عمليًا تصفية للهوية الديمقراطية للدولة، وبالتالي حصر هويتها بالدين اليهودي، من هنا انتفض الاتجاه الديمقراطي الليبرالي على إجراءات وقرارات نتنياهو طوال عام 2023 حتى جاء هجوم السابع من أكتوبر ليجمد الصراع لمصلحة الحرب. واليوم بعد أن حققت إسرائيل جزءًا كبيرًا من أهداف الحرب، وباتت تشعر بأنها تسيطر على الأوضاع عاد الانقسام للظهور بشكل أعمق، والخلاف هذه المرة حول رفض نتنياهو تحمل مسؤولية الاخفاق الذي حصل في السابع من أكتوبر، وبدأ سلسلة إقالات لقادة الجيش والأجهزة الأمنية، وآخرها إقالة مدير جهاز الأمن الداخلي "الشاباك" رونين بار، والتهديد بإقالة المستشارة القانونية للحكومة، وهي أمور جاءت مجتمعة، مما دفع عشرات الآلاف من الإسرائيليين للخروج والتظاهر في شوارع تل أبيب والقدس ومدن أخرى.

وعاد نتنياهو ليستمد القوة لاستكمال انقلابه من عودة بن غفير وحزبه المتطرف للائتلاف الحكومي، ومع وجود الرئيس الأميركي ترامب في البيت الأبيض، الذي يعتبره نتنياهو الحليف والداعم الأقوى له، توحش رئيس الحكومة الإسرائيلية وأصر على استكمال خطوات الانقلاب على الديمقراطية وسيادة القانون، وعاد الحديث عن احتمال حدوث حرب أهلية في إسرائيل، بين اليمين الفاشي، والاتجاه الذي يؤكد أن الديمقراطية مكون رئيس لهوية الدولة.

وهناك من يقول أن الحرب الأهلية بدأت فعلاً، أو جاءت الشرارة لهذه الحرب المؤجلة، عندما قام اليميني المتطرف يغئال عمير باغتيال إسحاق رابين في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر 1995، والبعض يذهب إلى أبعد من ذلك إلى الاشتباكات المسلحة التي جرت في إسرائيل بعيد ما يسمى إعلان الاستقلال على خلفية رفض الأرغون (الايتسل) اليمينية المتطرفة الانضمام إلى الجيش الإسرائيلي الذي أعلن بن غوريون تأسيسه، وهو الجيش الذي كان عصبه الرئيس يتكون من منظمة الهاغاناة العسكرية الصهيونية، والاشتباكات المشار إليها انتهت سريعًا برضوخ الأرغون وانضمامها للجيش الإسرائيلي.

الانقسام الداخلي في إسرائيل انتقل إليها من الانقسام القديم العميق داخل المنظمة الصهيونية منذ تأسيسها نهاية القرن التاسع عشر، أي تلك التي سبقت الدولة بين التيار العمالي الاشتراكي بقيادة بن غوريون من جهة، والصهيونية التصحيحية (التنقيحية) اليمينية بقيادة جابوتنسكي من جهة ثانية، وكان يقف في الوسط التيار الليبرالي بقيادة وايزمان.

ومنذ عام 2019 لم تعد الانقسامات قابلة للجسر، خاصةً بعد أن تعذر الحسم في جولات الانتخابات إلى أن حسم اليمين الأمر لصالحه في عام 2022 وتشكل أكثر ائتلاف حكومي تطرفًا في تاريخ إسرائيل وحصوله على نسبة مريحة من المقاعد في الكنيست (64) مقعدًا، واليوم يملك هذا اليمين الأغلبية (67) بعد انضمام ساعر وحزبه الصغير إلى الائتلاف. وللتدليل عن عمق الأزمة العضوية في إسرائيل عام 2022 بث البرنامج السياسي الكوميدي الشعبي "أرض رائعة" هذا الحوار: كل من لديه ذرة عقل يرى أن الانتخابات المتكررة لا تساعد، ولن تساعد، إذن ما هو الحل؟ الجواب: فقط حرب أهلية، هذا الشعب ليس هناك ما يجمعه، ولا يوجد كيمياء بين مكوناته. يوجد أصناف، يمنيون، بولنديون، روس، بلغاريون، سوريون، لا يوجد ما يجمعهم.

الأزمة الداخلية في إسرائيل أعمق من ذلك، فهناك صراع بين المستعمرين القدامى بين الجيل القديم المؤسس الأشكنازي والجيل الجديد الذي تمثله الصهيونية الدينية، مأزق إسرائيل في صهيونيتها، في الفكرة الصهيونية الاستعمارية العنصرية وتجلياته، الاحتلال والاستيطان. فهوية الدولة الديمقراطية لا يمكن أن تتعايش مع الاحتلال والاستيطان. الحرب الأهلية قد تكون الآن، اليوم، لكن، وعلى ما يبدو أن لا مفر منها.