بقلم: رشيد عبد الرحمن النجاب
يتشابه غلاف رواية "عين التينة" في المظهر العام مع غلاف رواية "زرعين"، فمشهد التلة المغطاة بالعشب الأخضر يعطي بعضا من شبه مع أنهما تختلفان كثيرا في التفاصيل، الروايتان من تأليف د. صافي صافي والأخيرة صدرت عام 2025 عن الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين في رام الله.
"حنان" حاضرة هنا على الغلاف وفي تفاصيل السرد حتى نهاية الرواية، كيف لا ؟ والرواية وهي من أدب الرحلات، تصفُ رحلة موجهة ومخصصة إلى بيسان، لزيارة "مدينتها، مدينة أهلها"ص5، في رواية زرعين كان ثمة رسالة من حنان وتوصية بزيارة بيت أهلها في بيسان، أما في هذه الرحلة فحنان هنا بكل تفاصيلها، وكل تفاصيل العلاقة بينها وبين الراوي أثناء الدراسة الجامعية وحتى اللحظة التي قالت له فيها "كن صديقي". في حضرة لقائه بها في صالة الفندق بعد أن اكتفيا من الأحضان بالنيات مادين ذراعيهما، ثم انخفضت الأعين خجلا وتابعا جلسة يسود الصمت فيها على الكلام، فراح الراوي يحلل أغنية لماجدة الرومي تحمل نفس العبارة "كن صديقي" ويسهب في الحديث عن كلماتها وأدواتها الموسيقية ويصف ألحانها يود أن يصل من كل ذلك إلى مآل العلاقة بينهما بعد أن عاد إلى الداخل وبقيت هي مغتربة.
حنان التي يتمحور اهتمامها الفكري والوجداني في زيارة مدينة أهلها "بيسان"، فردت على عرض مضيفها لزيارة معالم المدينة التي ود أن يتباهى بها كمسرح لمغامرات الطفولة والمراهقة: "لا تلمني يا صديقي لا أحب المدن الحديثة، ولا البنايات العالية، ولا نظافة شوارعها أخشى أن أقارن بينها وبين مدينتي الآن" ص20، وبرغم حبها للقدس بكل معانيها إلا أنها قالت: "لكنني جئت من أجل بيسان". فهل كانت له نفس الخشية من مقارنة المدن الحديثة "رام الله" بقريته بيت نبالا التي وصف حدودها ولم يذكر اسمها ؟
يبدو أن له نظرة مختلفة فقد قال متعجبا: "لكنها القدس ياحنان!" ص22، بينما راح يتحدث عن رام الله وعن تعلقه بها وهو الذي سكنها بعد أن باتت قريته "هناك" أيضا حيث وصف، إلا إنه عبر عن شعوره وهو يمر برام الله واصفا إياها ب "مدينة كل المدن والقرى الفلسطينية" ص 22 وراح يعدد أسماء المدن والقرى من خلال يافطات المحلات وأسهب في ذلك أيما إسهاب كأنه يخشى أن يلومه أحد، فيقول وأختصر كثيرا، "وأرى يافطات المحلات التجارية والعمارات بأسماء اللداوي، والرملاوي، واليافاوي، والريماوي.........."، ص21
يبدو الوصف المفصل سيد الموقف في هذه الرواية، فكما ذكر المدن والقرى الفلسطينية التي تبدو شواهدها في رام الله، تجده يعدد أنواع التين وأسماءه وهي التي تختلف في قريتين أو مدينتين متجاوريتين ما بين بياضي، وخضاري، وسوادي وحماضي وشحامي ...إلخ ترى ما الذي دفع صافي للخوض في هذه التفاصيل، وذلك التعداد؟ ولا أجد غير تثبيت الهوية جوابا، لكل هذه الأسماء، وكذا العادات والتقاليد وهي صنو الهوية والمؤشر عليها جوابا على هذه التساؤلات !!!
هل قلت تساؤلات؟! نعم فالحوار في هذه الرواية حافل بالتساؤلات حول شتى المواضيع، الفراق واللقاء، والعودة، والهوية، ومَن هنا، ومَن هناك، وما هو الداخل وما هو الخارج؟، وأشياء ومواضيع، ومواقف أخرى كثيرة كانت عرضة للتساؤلات، ولم تكن الإجابات متوفرة في جميع الحالات بل كان يجيب على التساؤلات بمزيد منها، وأحيانا بألفاظ متشابهة أو مترادفة يقول عنها: "نتلاعب بالألفاظ لتعني كل شيء ولا تعني شيئا في الوقت نفسه، فنستطيع التقدم خطوات أخرى فيما نقصده داخليا، أو نستطيع التراجع كأننا لم نقصد ذلك على الإطلاق". ص32 وهكذا يكون للعبارات دلالات ومعان أخرى في مواقع كثيرة خلال السرد وأحسب أن المؤلف أراد للقارىء أن يتمعن فيها ويكتشفها كل على طريقته .
وأعود للوصف، فقد قدم لملابس صديقته حنان وهيئتها وصفا مفصلا بالألوان ودرجاتها والقماش وسويته، وتفاصيل النقوش على التنورة، والقميص، ولون الشعر وتسريحته. فإذا انتقل إلى "مها" رفيقة دربهم في الرحلة تراه وقد مضى في وصف حركات الرقص ومد اليدين، وثني الجذع واستواء الكفوف والأصابع كأنه ينقل بثا حيا ومباشرا من موقع الحدث ويكاد يكون نابضا بالمشاعر.
إلا إن الوصف الأهم الذي أفرغ له عددا من الصفحات، ونقل معظمه على لسان صديقته حنان وهي المختصة في دراستها في هذا النوع من المخلوقات، وقد واكب هذا الحديث تواجدهما في بيئة تتكاثر فيها هذه المخلوقات: عيون مياه وجداول، وطرقات لزجة، وأشجار الكينا "اليوكاليبتوس" والحور وغيرها، هناك حيث تكثر "اليعاسيب" أو الرعاشات، والتي جاء تعريفها بالاستعانة بمحرك البحث غوغل كما يلي: "من الحشرات المفترسة الهامة وهي تأكل البعوض والحشرات الصغيرة الأخرى مثل الذباب والنحل والنمل والدبور ونادرًا جدًا ما تأكل الفراشات".
أما في السرد فقد فد شمل الوصف ألوانها، وأحجامها، وحركاتها، وطريقة تزاوجها وتلقيحها وحفظ بيوضها، وحِرْص الذكر على التحقق من نقاء النسل وتبعيته له. ولعل أهم ما في هذا الوصف وصوله للَّون الأزرق، ولهذا اللون ما له من دلالات بمضمون الفقرة التالية.
تصادف وجود الفريق عند هذه العين وتدعى "عين التينة" بالقرب من الحدود في منطقة الجولان حضور عدد من المستوطنين الإسرائيليين الذين يطوفون في البلاد قبيل التجنيد، في جماعات، ويتصرفون مع من يصادفون من العرب بكثير من العدائية بكل مظاهرها، وغالبا ما يستدعون الشرطة والجيش، فيغدو العربي في وضع المتهم لمجرد تصادف وجوده مع المستوطنين في بقعة ما، فكيف إذا كانت عين ماء ولهذه العيون ما لها من جاذبية من قبل المستوطنين تفاصيل وصف هذا الموقف وما قام به الجيش من إجراءات مهينة ضد الرجال والنساء تشير إلى مواقف صلبة مبنية على خبرات سابقة في مواجهة هذه الاعتداءات السافرة لمجرد تصادف المرور بمنطقة ما، وفيها دلالات وإشارات إلى اعتداءات يومية يمارسها المستوطنون في القرى والمدن والطرق التي يربط بينها.
ويصل الركب إلى بيسان، المدينة التي تحمل الإسم الكنعاني القديم الذي يعني الرب "إله الهدوء والسكينة"، ويطفو إلى السطح تساؤل حول أهلية ذلك الإله لهذا الإسم بعد سكوته على الهدم والردم والتشريد الذي شهدته المدينة، وتطفو إلى الذاكرة قصص وروايات عن المدينة القديمة هي ذي حنان تحكي الحكايات عن الأهل والمدينة والبيادر وسوق الخميس وعادات الزواج، وترضى بالموت مصيرا بعد أن عادت إلي بيسان كم هو مؤسف هذا المصير، ألا نستطيع أن نحلم بالعودة لنحيا؟.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها