الشاعرة الفلسطينيَّة نهى عودة

الأسير المُحرَّر جمال أبو محسن (2)

تُعرف الشاعرة الفلسطينية "نهى شحادة عودة" في المجتمع الأدبي العربي باسم "ياسمينة عكَّا"، أبصرت النور في مُخيّمات اللاجئين في لبنان ذات يوم مُندسٍّ بين أعوام ثمانينيات القرن الماضي، وتعود أصولها إلى قرية شعب في قضاء عكّا بفلسطين.. هي ناشطة ومناضلة من أجل الحفاظ على الثقافة والذاكرة الفلسطينية وضمان توريثها لأجيال اللاجئين.. نشرت رواية واحدة وعددا من الدواوين الشعرية، وخصّت جريدة "الأيام نيوز" بمجموعة من القصاصات التي أودع فيها الأسرى المُحرّرون الفلسطينيون بعض ذكرياتهم في رحلة العذاب..

مركز التحقيق العسكري هو بداية الرحلة إلى المجهول، وفي الطريق إليه تصير بعض المصطلحات بلا معنى مثل مصطلح "المستقبل"، وتنكمش الأحلام والآمال الشبابية حتى تغدو أشبه بلطخات حبرٍ في دفتر الأيام.. حتى الأبعاد الثلاثة تختلّ وتُصبح بعض الأشياء والمشاهد ببُعدين أو لعلها تخلّت عن أبعادها ودخلت في لعبة سوريالية تهدّم فيها الجدار الفاصل بين الوعي واللاوعي.
مركز التحقيق العسكري في طولكرم، كان بداية رحلتي في المجهول، فقد اقتادوني إليه وكنتُ في الطريق إليه مضطربا بين رغبتي في الوصول السريع إليه أو أن تمتدّ الطريق ويصير بلا وصول! وكم كنتُ أتلهّف للوصول إلى طولكرم في أزمنتي القديمة.. 
طولكرم مدينة فلسطينية جميلة. تقع في شمال غرب الضفة الغربية، وهي ثالث أكبر مدينة في الضفة الغربية مساحةً وسكانًا بعد مدينتَي الخليل ونابلس؛ حيث تبلغ مساحة أراضي المدينة وحدها أكثر من 32,610 دونمًا، كما تُعتبر بلدية طولكرم ثالث أكبر هيئة محلية في الضفة الغربية.
وصلنا إلى مركز التحقيق العسكري، كان الدخول إليه بمثابة الدخول في منفى من الضباب ومُدجّج بالتساؤلات عمّا سيكون بعده. انتابني شعورٌ بأن الوقت الذي يُقاس بالدقائق والساعات قد توقّف، لم أشعر بأيّ خوفٍ.. ركّزتُ كل حرصي على الكلمات التي يُمكنها أن تُفلت مني في لحظة سهوٍ أو ضعفٍ مباغت أو عن طريق الخطأ، فأنا في حقيقة الأمر لا أمثّل نفسي، ومن الواجب أن أحافظ على الأسماء والأماكن وكل ما يتعلّق بالفدائيين، فالعدو الصهيوني يفهم لغةً واحدة وهي لغة الترهيب والتعذيب والتقتيل.
منذ اللحظة الأولى في مركز التحقيق العسكري، قيّدوني ووضعوا غطاءً على رأسي وانهالوا عليَّ بالضرب الجنوني المبرح.. كانوا عشرة جنودٍ في منتهى الوحشية ولا ينتسبون إلى الآدمية إلا من خلال هيئتهم فقط. وخلال فترة التحقيق، جعلوا من جسدي خارطةً مُخطّطة بالجراح العميقة والدّم المُتكبّد، ومارسوا عليّ مختلف أساليب الترهيب والتعذيب منها أساليب الشبح وإجلاسي مقيّدا على كرسي لأيامٍ عديدة، ولم يتوقّف الضرب المبرح والإهانة والشتائم.. فهي أمور يوميّة كأنما هي مُقرّر مدرسي يأخذه تلميذٌ على امتداد ساعات في الليل والنهار.
لم يقدّموا لي العلاج لمداواة جراحي أو تسكين آلامي، حتى الطعام كان يقتصر على بيضة وقطعة من الخبز أو ملعقة لبن فقط، طوال فترة التحقيق، ورغم أنني كنت فاقدا لأيّ شهيّة في الأكل، ولكنهم كانوا يجبرونني على تناول القليل الذي يُبقيني حيًّا على قيد الحياة.