لعلّ أجدادنا لم يُبدعوا في رسم الخرائط، بيدَ أننا عندما نتأمل تسمياتهم للأماكن نجد كنزًا؛ بل كنوزًا من المعرفة التي تتجسد فيها تجليّات الذاكرة الجمعية وتلخص تجربة الإنسان على الأرض وذاكرته عبر التاريخ ومدى ارتباطه بالأرض.
في كتابه "لكل عين مشهد 2 - تسميات الأماكن في قضاء حيفا الانتدابي" يؤكد المؤرخ البروفيسور مصطفى كبها في كل صفحة من نحو 700 صفحة أن دراسة علم التسميات لا يُمكن أن تكون ترفًا فكريًا، بل هي تأكيد على علاقة الشعب الفلسطيني الوثيقة بالأرض وخبرته الأصيلة بالبيئة والاستدامة.
في هذا التقرير نستعرض شيئًا من المعاني الفريدة لتسميات العيون والينابيع، كما جاءت في الكتاب، مع شيء من التوسع باختصار في بعض المعاني التي تأخذنا إلى علوم الجغرافيا والجيولوجيا والهيدرولوجيا، كما علم النبات والحيوان.
وصف التضاريس
لمعالم الأرض وتضاريسها حضور لافت في تسميات الأماكن عمومًا، وفي تسميات العيون والينابيع خصوصًا.
ولعلّ أهم التسميات التي شاعت في هذا القضاء هي ارتباط تسمية بعض العيون بموقعها المرتفع أو ببداية مجرى أو مسيل مائي، وغالبًا ما يُشار إليها بلفظة "رأس" (وهو اسم يُشار به كذلك إلى قمم الجبال المرتفعة) فنجد "عين رأس النبع" في قرية "أم العلق"، وكذلك التسمية نفسها في عسفيا ، و"رأس المي" في قرية أم العمد، وكذلك عَيْن رُشْمّيّا وهي تسمية آرامية تعني رأس النبع أو منبع الماء - كما جاء في الكتاب.
ومن اللافت في التسميات المرتبطة بوصف التضاريس بأنها كثيرًا ما تكون مرتبطة بجسم الإنسان، وفي تسميات العيون، على سبيل المثال، نجد عين الكوع في قرية "أبو شوشة"، والكوع هو مرفق اليد أو منعطف الطريق.
من المسميات التي ترتبط كذلك بوصف تضاريس المكان "عين الشِّقَاقْ"، إذ نجد التسمية ذاتها في قرية أم الزينات، وكذلك في قرية إجزم.
وفي تفسير التسمية يقول "كبها": "اسمها إما أن يكون مستمداً من وادي الشقاق، أو لوقوعها في شق صخري على حافة الوادي".
تسمية أخرى نجدها في قريتي قيرة وقامون عين المحشورة ونبع القبوة في قرية الشيخ بريك (طبعون)، وقد ارتبطت التسمية بوصف المنبع، حيث تنبع العين من "قبو" أو "نقب" قديم محفور في الحجر.
أما في عين الفَخيت؛ فإن التسمية ارتبطت بوصف الحفرة الواقعة قرب العين، ووفقًا للكتاب فإن "الفخيت هي تصغير الفخت وهو الحفرة"، وفي قرية الغبيات نجد عيون الجوارير التي سُميت بهذا الاسم، نسبة لمنظرها الذي يبدو للمشاهد عن كثب كالجوارير.
وصف التدفق والجريان
لأن العيون والينابيع تتميز وتتمايز بقوة جريانها ودرجاته، فإننا نجد في التسميات إشارات لدرجات الجريان وشكله، فهي تحمل تفاصيل مثيرة للاهتمام لكل من يقصد العين.
على سبيل المثال، إذا سُميت العين أو الأرض "نزّازة" أو "نزّاز" فإن هذه إشارة إلى ضعف جريان وتدفق المياه من حيث الكم، فالأرض النزّاز هي الأرض التي يخرج منها الماء بصعوبة وعلى مهل، ونجد هذه التسميات شائعة في عدد من القرى في قضاء حيفا مثل كفر قرع وعسفيا وخبيزة وعرعرة.
في المقابل، عندما يُطلق على العين "عين الفوّار" كما هو الحال في قرية دالية الروحة وقرية صبارين، فيُقصد بها بأن المياه تتدفق من هذه العيون بقوة.
هناك تسميات أخرى ترتبط بالجريان، ولكن بأشكال غير مباشرة، على سبيل المثال، عند البحث في تسمية "عين البواطي" في الغبيات، نجد الباحث يشير إلى أن البواطي جمع باطية وهي الحوض أو آنية كبيرة يُسكب فيها الماء.
وكذلك عين البلد، وهي تسمية تتكرر في بلدات كثيرة مثل الكفرين، والباجور، وصبارين، وعسفيا وغيرها، غالبًا لا يقال عن العين عين البلد إلا إذا كانت مصدر شرب أساسي للبلد كله، وبالتالي فإن مياهها كانت وافرة وتجري طيلة العام غالبًا، وقد تسمى باسم البلد نفسه، مثل عين السنديانة وعين شفا عمرو. ولأن التدفق قد يختلف مع اختلاف الفصول نجد تسميات مثل "عين الشتوية" في إعبلين تدل على أن "العين تتدفق في فصل الشتاء وتشحّ في الصيف".
وصف جودة الماء وخصائصها
في الغوص أكثر في تسميات العيون مع كتاب "لكل عين مشهد" نجد بُعدًا لافتًا يعكس الإبداع في تسميات الأماكن الذي تميّز بها أجدادنا، خاصة عند الحديث عن جودة مياه العيون وعذوبتها.
من التسميات اللافتة "عين العسل" في قرية خبيزة، وقد سُميّت كذلك لنقاء وعذوبة مائها، وكذلك عين الزرقا في قرية عين حوض سُميت كذلك بسبب لون مائها الذي يميل للون الأزرق (دليل نقاوة).
ومن التسميات التي تتكرر تكراراً يلفت الانتباه، في تسميات العيون هي "العَلَقْ" ونجدها في صبارين وعسفيا وغيرها. و"العلق" أو "العلقة" هو اسم لحشرة تعيش في المياه التي يُمكن تصنفيها بأنها ذات جودة رديئة.
واللافت في هذه التسمية أنها تدلّنا على "مؤشر حيوي" (بالإنجليزية: Bio-indicator) من تراثنا البيئي لمعرفة جودة مياه العيون، والتحذير في الوقت نفسه من هذه العيون؛ حيث تكثر العلق.
يذكر عبد اللطيف البرغوثي في "قاموس اللهجة الفلسطينية" بأنها سُميت كذلك لأنها تعلق في الفم وتمتص الدم وتنزف ما يفضل عن حاجتها منه، وهناك طرق ووسائل شعبية للوقاية منها.
هناك تسميات ارتبطت بملوحة المياه، وهذه التسمية تستحق الاهتمام لأنها لا تدل على المياه فحسب، إنما أيضًا على الصخور التي في باطن الأرض، مثل عيون المويلحة في إجزم وأم الزينات، وسميت كذلك لوجود ملوحة في مياهها.
ومن التسميات التي تكثر في هذا القضاء هي "العين البيضة" أو "البويضة"، وهذا يرتبط بالخصائص الجيولوجية للمنطقة وتحديدًا نوع التربة والصخور الجيرية التي تميز منطقة العين.
ومن المُلاّحظ أن الجيولوجيين يعتبرون المياه ذات جودة عالية حين تكون في مناطق تكثر فيها الصخور الجيرية والطباشيرية.
في الكتاب نجد كذلك "عين عافية" في شفا عمرو، بيدَ أننا لا نجد إشارة لقصة منتشرة عند أهالي البلدة التي تقول إن العين سُميت كذلك لأن القائد المسلم عمرو بن العاص حين مرّ بالقرب من شفا عمرو كان مريضًا ونصحه بعضٌ بالشرب من مياه "شفا عمرو" عند عين العافية، فشُفي وبناء عليه سمُيت البلدة، وهي قصة شعبية متداولة، دُون وجود مراجع علمية لها.
وصف الغطاء النباتي
ولأن بيئة العيون والينابيع تتميز بغطاء نباتي يُميزها عن بقاع أخرى، فإن ذلك ينعكس على التسميات التي تركزّ على نباتات معينة.
في قضاء حيفا، نجد كتاب "لكل عين مشهد 2" يسرد لنا أسماء عيون مثل عين الجميزة في عثليث، وعين الدفلة في الطنطورة، وعين زيتونة في عرعرة، وعين السريسة في طيرة الكرمل، ونبع الحبق في عسفيا، وعين الكليخ في الخريبة، وعين النخلة في دالية الكرمل، وعين السوس في الجعارة، وهي كلها نباتات تنمو حول العيون وغيرها، ولم تتكرر هذه التسميات كثيرًا.
من أكثر التسميات تكرارًا نجد التين يتكرر مرتين "عين التينة" في أبو شوشة وإعبلين، كذلك عين الصفصافة تتكرر مرتين في أم الزينات والكفرين، وكذلك عين الدالية أو دالية العنب في حيفا.
أما التسميات الأكثر تكرارًا فهي عين العُلّيق والقصب، حيث تكررت كل تسمية ثلاث أو أربع مرات، والعلّيق أو توت العلّيق هو من النباتات الشائكة وثمارها عبارة عن فاكهة برية تتميز بطعم حامض حلو، ويُستدل بها على مواقع العيون غالبًا.
أما القصب فهو نبات مائي ومنه أصناف كثيرة؛ بعض منها كان يُستخدم في صناعة المكانس وآخر في صناعة الشبابة واليرغول- آلة موسيقية قديمة-، وآخر تُسقف به البيوت وتُصنع منه الأسيجة.
ومن الجدير بالذكر أن هناك عيون يُشار إليها مجموعةً، مثل منطقة عيون خبيزة، حيث قرية خبيزة، وحيث تكثر كذلك نباتات الخبيزة (الكحلة) المميزة.
وصف البيئة الحيوانية
للحيوانات نصيب أقل في تسميات العيون من النبات، ومع ذلك نجد كائنات حية مثل الغُزلان والحجل والبقر ترتبط بأسماء العيون، فهناك قرية عين غزال في هذا القضاء، وعين الحجل وهي من عيون قرية عين حوض، وترتبط بخربة حجلة، والحجل هو طائر الشنار.
عيون البقر في قرية أبو زريق، وعين العجلة، وعين العجّال في قرية إجزم، تجعلنا نفهم مدى أهمية العيون لرعاة الأبقار في قضاء حيفا، وقد جاء في الكتاب عن "عيون البقر": "في فترة الانتداب شكلّت مصدر السقاية الأساسي لقطعان عرب الطواطحة، ومن هنا كما يبدو جاء اسمها".
وأما قرية إجزم، فكان فيها عدد كبير من العجول قُدِّر قبل النكبة بنحو 3000 رأس، وكان حليب الأبقار يصل يومياً إلى أسواق حيفا؛ عدا الجبنة والألبان .
من اللافت أن للتماسيح حضورًا في هذه المنطقة، حيث اسم وادي التماسيح الذي يمر قرب جسر الزرقاء، ويُعتقد أن التماسيح تواجدت فيه في الماضي، وفي التسميات العبرية لمجموعة العيون الواقعة في خربة الكبارة في المنطقة نفسها، أُطلق عليها اسم "عيون التمساح עיינות תמסח".
ألغاز التسميات
رغم تفسير أصول عدد من التسميات لمواقع كثيرة في قضاء حيفا، تبقى هناك مسميات غامضة لا يُمكن تصنيفها، وهي ليست بقليلة.
في أثناء إعداد التقرير، استوقفنا عددًا منها، مثل عين أم الفرج في طيرة الكرمل، التي لا يُعرف إن سميت كذلك لكونها ترتبط بخصائص علاجية وتفريج كروب من يشرب من مياهها. أو حتى عين المشاري في عين حوض وهل ترتبط بخلايا النحل؛ فبعض القواميس تذكر المشاري بأنه جاني العسل.
وعين المشحة في لد العوادين، هل ترتبط بطقوس المَشْحَة عند المسيحيين وهي مسح المريض بالزيت المقدّس.
وعين الصني في قيرة وقامون، هل يُقصد بها "شعب صغير يسيل فيه الماء بين جبلين" كما جاء في لسان العرب؟ وهل عين السياح تعود في الأصل إلى مصطلح سيح الذي يُقصد به آبار جمع مياه الأمطار أو مياه الجريان السطحي؟ كُل هذه أسئلة تستحق مزيدًا من البحث.
ختامًا، لا شك أن هذا التقرير المختصر لا يستوفي التسميات حقها، فكلما تأملنا التسميات أكثر وكلّما أمعنّا النظر أكثر وجدنا كثيرًا من الحكايا البيئية التي تكشف أسرار الطبيعة، بل إن التسميات في كثير من الأحيان يُمكن أن تكون بمثابة خرائط، إلا أنها مرسومة بالكلمات لا الخطوط، وكل كلمة تكشف عن خصائص جغرافية وجيولوجية وهيدرولوجية كما تكشف عن التنوع النباتي والحيواني الذي ميّز المنطقة يومًا ما.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها