الحرب التي أعلنتها الولايات المتحدة الأميركية على المحكمة الجنائية الدولية بإقرار الكونغرس لقانون يفرض عقوبات على قضاة تلك المحكمة الموقرة، وذلك يوم الخميس الماضي 9 كانون الثاني الحالي وتضمن فيها: منع قضاة وإداريي المحكمة من دخول الولايات المتحدة، ومعاقبتهم ماليًا وإداريًا وقانونيًا، كما يتضمن القرار الذي حظي بموافقة 247 نائبًا بوقف تمويل المحكمة، وأن المحكمة لا تتمتع بأي سلطة على إسرائيل أو أي من حلفاء أميركا. وكان مما ساقته الولايات المتحدة الأميركية لاتخاذ هذا القرار هو القول: إن "المحكمة ساوت بين إسرائيل وفلسطين"، وفي هذا الصدد علينا أن لا ننسى ما صرح به مايكل جونسون رئيس مجلس النواب ضد المحكمة الجنائية الدولية، حيث هدد أعضاءها بالويل والثبور وعظائم الأمور، وفيما يتعلق بهذا الشخص بالذات فهو لا يخفي تطرفه وتأييده الهائل واللاإنساني لرؤية نتنياهو وشركائه في الإبادة الجماعية، وتصريحات جونسون هذا مثيرة بشكل خاص، ذلك أنه يظهر بهذا الوجه المبتسم والراضي ومسحة الطفولة والبراءة تطل من عينيه، تشعر أنه مبتهج وهو يتحدث عن قتل الأطفال ومحاصرة محكمة دولية وتمجيد القتل.

ويبدو أن الحرب على الشعب الفلسطيني منذ أكثر من خمسة عشر شهرًا قد فعلت الكثير في الإقليم والعالم، والتغييرات العميقة لم تحدث في منطقتنا فقط بل في العالم أيضًا، أما في الولايات المتحدة الأميركية فقد أسقطت إدارة منحازة ومنافقة لتنتخب إدارة واضحة ومتطرفة وعنيفة ويمينية، وهو ما حصل في بعض أجزاء من أوروبا أيضًا. وكأن الحرب على الشعب الفلسطيني أيقظت الأحقاد والأضغان والصور النموذجية.

وفيما يتعلق بالولايات المتحدة التي أعلنت من خلال قانون في الكونغرس عن حصارها وتجفيف تمويلها للمحكمة الجنائية الدولية، فهي تقوم فعليًا بإنهاء عمل المحكمة وبالتالي إنهاء العمل بالقانون الدولي، وإدارة الظهر للعالم القديم من أجل نظام عالمي جديد آخر يقوم على قانون الغاب عنفًا وتوحشًا. وقد يتوافق هذا بما أعلن عنه ترامب عن نيته ضم غرينلاند وكندا وقناة بنما. هذا سلوك جديد تعبر عنه الولايات المتحدة خدمة لمصالحها وأطماعها ورؤيتها لما سيأتي من أعوام من هذا القرن الذي نعيش فيه. قد لا تقع حرب نووية بين الأطراف المختلفة، ولكن من المؤكد أن سلوكًا عدوانيًا من هذا النوع تقوم به أميركا سيدفع أطرافًا أخرى لأن تفعل فعلها، فتقوم كل دولة كبيرة أو صغيرة بالاعتداء على جيرانها الضعفاء، أو أولئك الذين بلا سند أو ظهير. وبدلاً من الاحتكام إلى مجلس الأمن أو أي هيئة دولية أخرى -باعتبار أن كل هذه الهيئات ستفقد دورها ومرجعيتها- فنحن أمام عالم خطير ومتوحش قد يهوي إلى قاع حرب نووية حقيقية مما يضع كوكبنا كله أمام النبوءات التي يؤمن بها أتباع الديانات الثلاثة، إن أميركا التي سيدخل ترمب بيتها الأبيض بعد أسبوع تقريبًا تريد أن تفرض على شركائها وحلفائها وأعدائها شروطًا جديدة لعلاقة تقوم على علاقة السيد والعبد، أو الإقطاعي وأقنان الأرض.

وفي هذا استدعاء وتهيئة للصراعات واندلاع الاضطرابات من كل الأنواع. أميركا التي تدخل عالم ما بعد الرأسمالية بما فيه من تغول للمال والتكنولوجيا واحتقار واستهتار بالنفس البشرية وحقوق الإنسان الأولية ستضطر ربما إلى مواجهة أعداء من جبهات متعددة لا تستطيع معها مواجهتها، وربما في سيناريو متطرف، قد تنهار القلعة بمن فيها، كعادة التاريخ المفاجئة والمعتادة، فإن القلعة الجبارة تنهار من داخلها في حدث متكرر، مدهش ولكن ممل أيضًا.

وبالعودة إلى قرار الكونغرس الأميركي ضد المحكمة الجنائية الدولية فهو قرار مهين للعدالة ومهين للعالم ومهين أيضًا للقيم الأخلاقية. إن قرارًا من هذا النوع يعني أن ما تتغنى به أميركا والغرب الاستعماري عمومًا من أخلاقيات وقوانين إنما هي ذريعة رخيصة للاستعمار، وكان لافتاً ما تباكت عليه أوروبا في سوريا الجديدة تجاهلته تمامًا في فلسطين. أكاذيب لم يعد أحد يخجل بها، أو حتى يحاول أن يجملها. حقًا نحن على أبواب عالم جديد يتشكل بسرعة.