الكذب والافتراء وقلب الحقائق والتزوير مرادفات للدلالة على قلب المعطيات والوقائع وتشويهها، أو إنكار حقيقة ما إن كانت من فرد إنسان، أو مؤسسة، أو حزب أو حركة سياسية، أو دولة أو ائتلافًا بغض النظر عن مستواه، إن كان في نطاق دولة أو مجموعة دول لحرف بوصلة المشهد، أو الجريمة، أو الصراع الداخلي أو الخارجي لخدمة المصالح الذاتوية. وهناك فرق شاسع بين الكذب الأبيض والأسود، فالأول شكل من أشكال المداعبة أو الاعتذار الضمني عن خطأ غير مقصود. لكن الشكل الثاني فهو ناتج عن عمل مقصود، ويهدف لتبرير مكيدة، أو جرم والتغطية على فعل شائن ولأغراض هدامة تتناقض مع الأخلاق والقيم والقوانين الإنسانية، وفي استهداف للآخر فردًا أو جماعة أو شعبًا.
وإذا أخذنا الحركة الصهيونية ودولتها اللقيطة إسرائيل، ومن خلفها الغرب الرأسمالي، نلحظ أنهم كل على حدا، أو كقوى مجتمعة ارتكزوا منذ النشأة الأولى على قلب الحقائق، وتزويرها، فالرأسمالية مثلاً قامت على كذبة كبيرة عنوانها الحرية والديمقراطية، والهدف استغلال الإنسان للإنسان، والحركة الصهيونية ودولة المشروع الصهيوني قامت على كذبة أعمق وأكثر وحشية وفق شعاراتها الناظمة اللا إنسانية والنازية المستهدفة للشعب الفلسطيني خصوصًا وشعوب الأمة العربية وأبرزها "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض" و"أرض الميعاد" وغيرها، والتي نظمت مركبات وأساليب عملها كافة لتحقيق هدفها الإجلائي الاحلالي الاستعماري.

ومن نماذجها الجديدة الجزئية التي تعكس مخططاتها الإجرامية والإبادية، وبالمقابل تحسين أو تلميع "صورتها" اللا إنسانية تقرير كشفت عنه صحيفة "يديعوت أحرنوت" الإسرائيلية أمس الإثنين 30 كانون الأول/ديسمبر الحالي موجه للأمم المتحدة حول مزاعم "مأساة الرهائن" الإسرائيليين في قطاع غزة، والذي يعتبر بمثابة فضيحة سياسية، حيث كشفت الصحيفة ذاتها، أن التقرير الذي أُعد بنسختين عبرية وانكليزية، وتضمن فوارق واسعة بينهما، فجاءت النسخة العبرية من 8 صفحات مليئة بالتفاصيل الكاذبة، والمشوهة للحقائق، منها حول النظام الغذائي الهزيل، الذي كان يقدم للأسرى الإسرائيليين، والاغتصاب، وإساءة المعاملة وغيرها من الافتراءات، وأورد التقرير 3 نماذج طفل، فتاة وامرأة "تحملوا تبعات نفسية وجسدية جراء الاحتجاز". فالفتاة خرجت بصداع مزمن ووزن منخفض، والمرأة تدهورت حالتها النفسية والصحية بعد الإفراج عنها.
في حين أن التقرير باللغة الإنكليزية كان مختصرًا وجاء في 6 صفحات، وحذف منه الوصف الذي تضمنه التقرير باللغة العبرية، ولم يورد فيه عن ممارسات العنف الجسدي والجنسي ضد الأطفال، وجاء الكلام عامًا، بالإضافة لعدم وجود حمامات مما اضطرهم إلى قضاء حاجتهم على أنفسهم، وتركوا في الظلام مقيدين، وعذبوا بالحرق بمكواة ساخنة، وهذا ما نفته النساء المفرج عنهن، ممن تجرأن على التصريح وتقديم شهادات للصحافة ووسائل الاعلام ومنظمات حقوق الإنسان، بل أكدن أن المعاملة كانت إنسانية، ودون أية قيود، حتى أن بعضهن أعلن، أنهن كن يسيرن بحرية في أوساط الناس وفي الأسواق.

وبعدما كشفت الأكاذيب والفوارق بين التقريرين، أعلنت وزارة الصحة الإسرائيلية، أن التقرير النهائي لم يقدم بعد إلى الأمم المتحدة، معتبرة أن الفروقات نتيجة "خطأ بريء"، سيتم تصحيحه. والأسئلة التي تطرح نفسها على وزارة الصحة وأركان الدولة الإسرائيلية، كم مرة يقدم التقرير للهيئات الدولية؟ وهل يمكن لمن كتب التقرير، وهو يسعى لتشويه وقلب الحقائق الوقوع في مثل هذه الفوارق الواسعة، أم أن الكذب وتزوير الحقائق سمة أساسية للدولة الإسرائيلية، التي قامت وتقوم حتى الآن على الخرافة والأساطير والخزعبلات اللاهوتية والوضعية؟.
ولماذا يتناسى الإسرائيليون القتلة ومجرمو الإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني عدد الشهداء والجرحى الفلسطينيين، الذين تجاوز عددهم 160 ألفًا، وهو ما يعادل نحو 10% من أبناء قطاع غزة المليونين و300 ألف إنسان؟ ولماذا تجاهلوا عدد المعتقلين من أبناء الشعب الفلسطيني من الضفة والقطاع بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023 الذي يزيد على 20 ألفًا من الأبرياء الفلسطينيين، وهذا باعتراف المؤسسات الإسرائيلية، التي تحدثت عن اكتظاظ السجون والمعتقلات الإسرائيلية؟ ولماذا لم يتضمن التقرير تصريحات ايتمار بن غفير وزير ما يسمى الأمن القومي عن الانتهاك الصارخ، الذي طالب وما زال يطالب فيه بإعدام الأسرى الفلسطينيين، وتقليص الغذاء المقدم لهم حتى يموتوا جوعًا؟. وكيف يتناسى التقرير سادية التعذيب ووحشيته في معسكر سديه تيمان وغيره من باستيلات إسرائيل؟. وعلى أي أساس لم يذكروا عدد الشهداء من المعتقلين، الذين استشهدوا تحت التعذيب، وعن تقييد الفتيات والنساء والأطفال والرجال من الأرجل والأيدي وغيرها من الأساليب الجهنمية، التي تفوقت فيها فنون انتهاكات النازيين الصهاينة على أفران المحارق الهتلرية.
باختصار شديد، هذا التقرير بنسختيه الإنكليزية والعبرية نموذجًا صغيرًا يفضح ويعري حقيقة الدولة اللقيطة الإسرائيلية، ومن ورائها الولايات المتحدة الأميركية وكل من دافع ويدافع عنها، وعن إبادتها الجماعية، وحتى لو جاءت التقارير متطابقة، فإنها لا تسقط ولا تلغي حقيقة الدولة العبرية المارقة والخارجة على القانون الدولي والقانون الإنساني الدولي، ولن تبرأها كل عمليات التلفيق وتزوير الحقائق، فالشواهد الماثلة للعيان أماطت اللثام عن وجهها القبيح والإجرامي الإبادي.