هذا  المقال  مستوحى من فكر المرحوم  الدكتور العالم مصطفى محمود الذي عبر عنه في كتابه الشهير تحت عنوان (أيها السادة.. اخلعوا الأقنعة).

عندما نتأمل الواقع الفلسطيني اليوم، نجد أنه يمثل صورة حية لما تناوله الدكتور مصطفى محمود في كتابه ودعوته الجميع لخلع الأقنعة وكشف الحقيقة. هذا الواقع، المليء بالتعقيدات والتناقضات والشعارات والايديوليجيات الفكرية، يكشف لنا كيف تداخلت المصالح الشخصية والسياسية مع المفاهيم  و  القضايا الوطنية القومية والدينية، حتى بات من الصعب التمييز بين المخلص للقضية ومن يستغلها لمآربه الشخصية والحزبية والفكرية.
فلسطين الشعب والقضية، تلك القضية التي تاهت بين الشعارات والمصالح الفئوية والحزبية والأجندات الإقليمية والدولية، وتاه معها الشعب الفلسطيني بين هذا وذاك من مستخدمي القضية لمصالحهم أو مصالح دولهم ومن العابثين والمتابعين والمسترزقين بها، وبين المخلصين الذين نذروا أنفسهم لها ولشعبها الذي لا زال يعاني منذ قرن ونيف من الزمان.

القضية الفلسطينية، تعد أعدل قضية في التاريخ السياسي  والقانوني الدولي والإنساني  الحديث،  لقد تحولت بفعل هذه الأقنعة التي تحدث عنها الدكتور مصطفى محمود في كتابه المشار إليه، إلى ملف تتاجر به أطراف متعددة محلية وإقليمية ودولية. لتجد نفسك أمام مشهد سوريالي معقد ومركب، يزدحم بالأفكار وبالشعارات الكبيرة والرنانة والكلمات البليغة التي تدّعي ظاهريًا نصرة فلسطين وشعبها، بينما تأتي النتائج الكارثية التي يتجرعها الشعب الفلسطيني على مدى هذه العقود الممتدة من العذاب والقتل والدمار والتهجير والتشويه والحقيقة ظاهرة على أرض الواقع، تقول شيئًا مختلفًا تمامًا.

الدول الكبرى الدائمة العضوية في مجلس الأمن  وخاصة الولايات المتحدة الأميركية، التي تزعم أنها  راعية للسلام، ليست سوى دول كبرى متورطة في ترسيخ الاحتلال الإسرائيلي وإدامة المعاناة للشعب  الفلسطيني.
إنها الأقنعة الدبلوماسية لهذه الدول التي تخفي أطماعًا سياسية واقتصادية واستراتيجية، بينما في حقيقة الأمر يستمر القمع والقتل والدمار والتشريد للشعب الفلسطيني، ويستمر الاحتلال الإسرائيلي الغاشم لفلسطين وشعبها بلا رادع ويستمر تغييب الحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني غير القابلة للتصرف.
أما الإعلام العربي والدولي، فهو يعكس صورة مشوهة للقضية وللشعب الفلسطيني، يغرق المواطن العربي والعالمي في أخبار متضاربة ومتناقضة، تجعل الحقيقة تائهة وسط بحر من الدعاية والمصالح  المتعارضة.
يتم تسليط الضوء على مشاهد محددة تتوافق مع مصالح وسياسات وغايات هذا الطرف أو ذاك، أو تدغدغ عواطف الشعوب وتُرضي الرأي العام المحلي أحيانًا، بينما يتم التعتيم على حقيقة الجرائم الإبادية اليومية للاحتلال الإسرائيلي.

الانقسام الفلسطيني، هناك أقنعة داخلية تزيد المشهد تعقيدًا تتمثل في حالة الانقسام الفلسطيني التي نتجت عن انقلاب حركة حماس صيف عام 2007 وفصلت قطاع غزة واستفردت في حكمه، تحت شعارات براقة، لكن الواقع كشف خوائها وكارثيتها على الشعب الفلسطيني وقضيته، وكانت خدمة مباشرة لأهداف وغايات الاحتلال والاستيطان والهدم والقتل والدمار والتشويه التي يسعى لتحقيقها الاحتلال  الإسرائيلي.
هكذا داخل الصف الفلسطيني نفسه، تبدو الأقنعة التي تحدث عنها الدكتور مصطفى محمود رحمه الله أكثر وضوحًا، إنه الانقسام واستمراره ومبرراته الواهية والكاذبة بين الفصائل الفلسطينية، والذي تجاوز مجرد الخلاف الرئيسي والسياسي إلى صراع على السلطة وامتيازاتها، والذي مثّل خنجرًا قاتلاً في خاصرة الشعب والقضية الفلسطينية.
رغم أن  كل طرف من طرفي الإنقسام  يدعي  أحقية تمثيل الشعب الفلسطيني والدفاع عن حقوقه، لكن الواقع يكشف أن المصالح الفئوية والحزبية  وبعض المصالح الإقليمية والدولية هي التي تقف خلف استمرار هذا الإنقسام منذ حدوثه ولغاية الآن، باتت تلك القوى هي التي تتحكم بالمشهد الإنقسامي  المشين رغم كل ما يتعرض له الشعب الفلسطيني  من مأساة يندى لها الجبين.

اللحية والأقنعة التي تحدث عنها الدكتور مصطفى محمود في كتابه الشهير يمكن إسقاطها على الحالة الفلسطينية، وتفسر تعقيدات المشهد الفلسطيني من مختلف جوانبه.

ترى قيادات ترفع شعارات المقاومة، لكنها تجلس على طاولات المفاوضات لتحقيق مكاسب سياسية.

ترى من ينادي بالوحدة لكنه للأسف يزرع بذور الفرقة والتكفير والتخوين بين أبناء الوطن والشعب الواحد.

أما الاحتلال الإسرائيلي نفسه فهو يتقن لعبة الأقنعة بامتياز، فهو الذي روج للعالم وصور نفسه بصورة "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، بينما يمارس أبشع أنواع القمع والقتل والإبادة والتهجير والتدمير ويمارس أبشع أشكال التمييز العنصري ضد الفلسطينيين سواء في المناطق المحتلة عام 1948 أو المحتلة عام 1967، يتحدث في إعلامه عن الأمن والسلام والإزدهار والاستقرار، وينكر حق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، ويواصل سرقة الأراضي وبناء المستوطنات في كافة أنحاء الأراضي المحتلة  ويصادر الممتلكات العامة والخاصة ويعمل جاهدًا  على تهويد كل شيء وعلى طمس هوية الشعب الفلسطيني وتصفية قضيته، وفي مقدمة ذلك   تهويد مدينة القدس التي تحتضن  المقدسات المسيحية والإسلامية، ليس هذا فقط بل زيادة في التضليل للرأي العام، حيث يعمل الإعلام الإسرائيلي والغربي لتقديم صورة مقلوبة ومشوهة عن الواقع، فقد صور الاحتلال كضحية، والفلسطيني كمعتدٍ وإرهابي، مستخدمًا بذلك قناع التضليل الذي يخدع به المجتمع الدولي.

أما أقنعة المجتمع الدولي، تتمثل في صمت مريب وتواطئ مع سياسات الاحتلال وانتهاكاته اليومية   الصارخة لقواعد القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.
هذا المجتمع الدولي، الذي يدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان نظريًا وإعلاميًا، وهو يرتدي أقنعة الدبلوماسية والحياد ليغطي على انحيازه السافر للعدوان على الشعب الفلسطيني.
القرارات الأممية التي تُصدرها المؤسسات الدولية بشأن فلسطين، تبقى حبرًا على ورق، ولا تُترجم إلى أفعال على أرض الواقع، بل إن كثيرًا من القوى الكبرى وخاصة الولايات المتحدة وغيرها تساهم بشكل مباشر أو غير مباشر في دعم الاحتلال والإستيطان الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية  واستمراره.

الحل يكمن في خلع الأقنعة والعودة إلى الجوهر، كما دعا الدكتور مصطفى محمود في كتابه الشهير، الحل يبدأ بخلع الأقنعة وكشف الحقيقة كما هي. يجب أن تتكاتف الجهود الفلسطينية أولاً لتحقيق الوحدة  الوطنية وإنهاء الانقسام، لأن استمرار الانقسام هو أخطر الأقنعة التي تؤذي القضية.
يجب أن يُظهر الفلسطينيون شعبًا واحدًا  قيادة واحدة وسلطة واحدة، ورؤية وبرنامجًا نضاليًا وسياسيًا واحدًا مستقلاً، دون تدخل من طرف خارحي أو أجندات أجنبية كما هو حاصل الآن، وأن تكون القيادة صادقة مع شعبها وقضيتها، بعيدة عن الشعارات الجوفاء والمصالح الحزبية واستقطابات القوى والمحاور الإقليمة والدولية.
على الإعلام العربي والدولي أيضًا أن يتحمل مسؤوليته الأخلاقية في عرض الحقيقة كما هي دون تحيز وبموضوعية متناهية. 
على الشعوب العربية والإسلامية أن تدرك أن دعم فلسطين ليس شعارًا يرفع في المظاهرات فقط، بل هو واجب والتزام عملي وسياسي وثقافي وأخلاقي وتاريخي معنوي ومادي دائم، حتى تتحقق أهداف الشعب الفلسطيني، في العودة وتقرير المصير وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس.
ختامًا، إن قضية فلسطين ستظل النموذج الأوضح لكيفية تأثير الأقنعة، المحلية والإقليمية والدولية، في تشويه القضايا العادلة.
إن خلع الأقنعة عن الجميع -الداخلية والخارجية- هو الخطوة الأولى نحو تحقيق الأمن والسلام والاستقرار والإزدهار، وتحرير الأرض والإنسان وتحقيق الحرية والعودة والمساواة وتقريرالمصير للشعب الفلسطيني، وإعادة البوصلة نحو الحقيقة التاريخية والاجتماعية والقانونية والعدل والحق الذي لا يضيع مهما طال الزمن فهي حتمية وواجبة، مهما طال الزمن.