عائشة القصاص، ولدت قبل عشرين يومًا في زحمة الخيام وبداية كانون، خرجت إلى الحياة تضحك بوجه بشوش وقلب يغمره الأمل، ولم تكن حينها تدرك معنى الولادة في أرض يطوقها الجحيم من كل الجهات، فلم يقوَ جسدها الهش الضعيف احتمال صقيع البلاد التي حلّ بها الخراب في زمن الإبادة الجماعية، فماتت بردًا، وذنبها الوحيد أنها ولدت لأم وأب من غزة.

على هذا النحو الذي يعكس حجم الجحيم الذي يعيشه الناس في غزة، ومدى بشاعة الاحتلال وجنوده، استشهدت الرضيعة عائشة القصاص ابنة العشرين يومًا، متجمدة من البرد القارس، والمطر الذي هطل على خيام النازحين الذين تجمدت أعضاؤهم وغرقوا في وحل المسافة، وطين القدر الذي أثقل ظروف العيش، وسط المعاناة المستمرة، وهم في عراء الخيام التي لا تدفئ الأجساد، ولا تحمي من الصقيع والمطر، ولا تقي من القصف والرصاص.

فصل من المأساة يضاف إلى وقع الإبادة الجماعية في غزة، فالناس بلا مأوى، وقد عاد الشتاء مرة أخرى في تتابع أيام الحرب والمقتلة المستمرة، حيث الوقت جحيم، والزمن بائس، وحيث كل شيء منكس الأمنيات.

عائشة القصاص، ابنة العشرين يومًا لم يكن بوسعها احتمال برد الشتاء، في خيمة على حافة الحدود، وهي واحدة من بين آلاف الأطفال الذين لقوا حتفهم سواءً بالقصف أو بالجوع والعطش، أو بالبرد القارس حيث صقيع ليل غزة لا يحتمله الكبار، فكيف بحال الصغار وهم يولدون في مثل هذه الظروف الصعبة والمأساوية، ولا شيء يتدثرون به في قماط يدفئهم، ولا أغطية تقيهم في ليالي كانون شديدة البرودة.

إنها سلسلة من مآسٍ يعيشها الناس في غزة كل دقيقة وكل لحظة، ولا يزال ضمير العالم عاجزًا عن مواجهة الجناة لوقف إبادتهم، ومنع غطرستهم ولجم تغولهم وتطهيرهم العرقي وحصارهم المستمر، فكل من يشهد هذه الإبادة يعرف كم تقاعس ضمير العالم، وكيف سكتت مواثيق الأمم، وغاب معها صوت العدالة.

عائشة القصاص، رضيعة في يومها العشرين ماتت بردًا، ولم يتحرك ضمير العالم بعد، ولم تستفز الإنسانية تلك المشاهد التي يندى لها جبين الإنسانية. يقول أحدهم: لماذا نسأل عن إنسانية العالم المفقودة؛ ومن نخاطب؟ نحن بإنسانيتنا تجاوزنا فصول الانتظار ولم يتحرك أحد. فكيف نخاطب من هم أدنى إنسانية، وقد ظهروا علينا بأنهم بلا ضمير، مؤثرين الصمت وملتزمين الحياد.