شكلت انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة في مطلع عام 1965 انعطافة تاريخية استراتيجية في مسيرة الكفاح الوطني التحرري، تمكنت عبر صيرورة كفاحها الطويلة خلال العقود الستة الماضية من تحقيق إنجازات تاريخية هامة ونوعية في إعادة الاعتبار للقضية والشعب والمشروع الوطني التحرري، وكان تشكيل منظمة التحرير الفلسطينية أحد أهم الإنجازات الوطنية، التي انتزعت مكانتها كممثل شرعي ووحيد للشعب العربي الفلسطيني، بغض النظر عن خلفيات العديد من الدول الشقيقة للإقرار بهذه المكانة. فضلاً عن انتزاع مئات القرارات السياسية والقانونية والكفاحية الأممية لصالح الشعب وحريته وتقرير مصيره بنفسه وعودته واستقلاله الوطني، التي لا يمكن التغافل عنها، أو تجاوزها والقفز عنها، أو إنكارها. لأنها حقائق دامغة، ورغم وحشية دولة الإبادة الجماعية الإسرائيلية ومعها الولايات المتحدة الأميركية على الشعب الفلسطيني لليوم 440 من حرب الأرض المحروقة، إلا أن القيادة الفلسطينية تمكنت من تحقيق العديد من الإنجازات السياسية والقانونية الهامة، لعلها تفتح الأفق أمام استقلال دولة فلسطين وتحررها الكلي من براثن الاستعمار فوق النازي الإسرائيلي الأميركي. 
لكن بعيدًا عن الإنجازات المعروفة، واجهت الثورة الفلسطينية تحديات كبيرة، لا تتمثل بوجود الدولة الإسرائيلية اللقيطة، التي أقامها الغرب الرأسمالي، وما زال يقف خلفها، ويمدها بمقومات البقاء والاستمرار والسيطرة على الأرض الفلسطينية المحتلة والأراضي العربية المحيطة بها، والسيطرة الاقتصادية والأمنية على دول عديدة بمسميات مختلفة تحت عنوان "اتفاقيات السلام" وبقرار من الولايات المتحدة الأميركية، إنما هناك عوامل وأسباب أخرى ذاتية وعربية ودولية، أعاقت تحقيق أهدافها الوطنية حتى اللحظة الراهنة من نهاية عام 2024، وعشية ميلادها الـ60 الذي يصادف الأول من العام القادم بعد أيام قليلة 2025.
من المؤكد، أن الثورة الفلسطينية اتسمت بخصائصها وسماتها الخاصة، ارتباطًا بالواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي والثقافي الفلسطيني والعربي، وشروط المكان والزمان التي أثرت على سيرورة النضال الوطني. ومن بين أبرز الأسباب المعيقة للثورة الفلسطينية، أولاً على الصعيد الذاتي عانت الثورة من الضعف في أكثر من نقطة:

1- على أهمية العامل الذاتي، الذي كان عاملاً مقررًا في إشعال فتيل الثورة وإعلان انطلاقتها، إلا أن هذا العامل تأثر تأثيرًا مباشرًا بسطوة العامل الموضوعي، الذي انتزع منها في محطات تاريخية هامة في مسيرتها مكانة التقرير، ولم يعد هذا العامل حاسمًا فقط، بل كان له دورًا مقررًا، على أهمية تبني القيادة الفلسطينية "القرار الوطني المستقل" في تحديد أولويات الكفاح الوطني، وحماية الذات الشخصية والهوية الوطنية، وبالتالي وبغض النظر عن حرص قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بتمسكها بالقرار الوطني المستقل، إلا أن العامل الموضوعي العربي والإقليمي والدولي كان وما زال له أثر كبير في تحجيم هذا القرار.

2- غياب حقيقي لتجسيد الوحدة الوطنية والشراكة السياسية والتنظيمية والكفاحية واللوجستية، حيث تعاني هذه الوحدة من نواقص واضحة، أثرت على التكامل بين قوى الثورة.

3- وجود قوى ثورة مضادة داخل الساحة الفلسطينية تمثلت بشكل جلي في صعود الإسلام السياسي، وتجلى بأوضح ما يكون بانقلاب حركة حماس على الشرعية الوطنية أواسط عام 2007.

4- وقبل ذلك، باسم القومية العربية قامت بعض الدول العربية بتشكيل أطرها الفصائلية داخل صفوف الثورة، بحكم التداخل العميق بين العاملين الوطني والقومي، مما أثر على استقلالية القرار الوطني الفلسطيني.

5- تآمر العديد من الدول العربية على الثورة الفلسطينية وظاهرتها العلنية مستغلة وقوع مناضلي الثورة في ممارسات فوضوية وارتجالية، بالإضافة إلى تطرف بعض الفصائل في انتهاج سياسات صبيانية تجاه تلك الأنظمة، وتغليب الإيديولوجيا على أهداف الثورة الوطنية، مما أسهم في إشغال وإلهاء الثورة عن التركيز على هدفها المركزي في مواجهة دول الاستعمار الإسرائيلية في محطات هامة من النضال الوطني.

* ثانيًا: عربيًا ودوليًا:

1- عدم وجود حاضنة عربية استراتيجية للظاهرة العلنية للثورة الفلسطينية، لا بل إن كل الحواضن كانت متناقضة مع مشروع الثورة الفلسطينية، بحكم ارتباطات تلك الدول الإقليمية والدولية، وتآمرت عليها. لأن ثمن وجودها على أراضيها كان باهظًا، وهي غير مؤهلة لتحمل تلك الأعباء.

2- رغم أن العديد من الدول العربية تاجرت بالقضية الفلسطينية لحسابات أنظمتها السياسية، خشية أو مجاباة للجماهير العربية الداعمة والمؤيدة للثورة الفلسطينية، ومع ذلك شاءت تلك الدول أن تستخدم القضية الفلسطينية لخدمة أغراضها الذاتية وعلى حساب المشروع الوطني التحرري.

3- حتى بعض الدول الإسلامية في الإقليم، نموذجها دولة ولاية الفقيه الإيرانية أرادت أن تستغل الثورة الفلسطينية لحسابات أجندتها الفارسية، وبحيث تكون أداة من أدواتها، وأرادت أن تنزع عنها ثوبها الوطني والقومي التحرري، وتضعها تحت عباءتها الدينية والطائفية الكاذبة خدمة لأجندتها القومية لتصفية حساباتها التاريخية وعقد نقصها من الأمة العربية.

4- وفي سياق عدم وجود حليف دولي استراتيجي، كان وما زال هناك حلفاء مهمين دوليًا كالاتحاد السوفييتي ومن ثم روسيا الاتحادية والصين ودول المنظومة الاشتراكية وغيرها من الدول، ولكن هؤلاء الحلفاء بحكم عوامل مختلفة بالبعد الجغرافي، وارتباطاتها الإقليمية والدولية والتداخل الفلسطيني العربي، وحتى بارتباطاتها مع دولة الاستعمار الإسرائيلية وحساباتها القومية، لم تتمثل دور الحاضنة الاستراتيجية للثورة الفلسطينية، رغم مواقفها الثابتة في دعم الثورة والشعب الفلسطيني على اكثر من مستوى وصعيد. إلا أن هناك فرقًا بين الحاضنة الاستراتيجية وبين الدعم المذكور.
هذه بعض الأسباب الذاتية والموضوعية التي بالضرورة تحتاج إلى إغناء وتطوير في قراءة أكاديمية موسعة، لعلني في المستقبل المنظور أتمكن من صياغتها في كتاب جديد.