انطلقت السردية الإعلامية الإسرائيلية قبل قيام دولة إسرائيل على أرض فلسطين التاريخية، ومنذ ست وسبعين سنة وهي تصدح وحيدة بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وهي موجودة بين بلدان متخلفة ويسكنها متخلفون ووحوش يريدون القضاء عليها. هذه السردية التي تبناها الغرب ودافع عنها بكل ما يملك، وعلى جميع الصعد، وسخر وسائل المنظومة الإعلامية العالمية الممولة في أرقام مالية خيالية من أجلها، وشيد المراكز التي أقامت المؤتمرات والندوات والورش والدراسات بلون الدولار لكي يتم دمج إسرائيل في محيطها وتسييدها على الشرق الأوسط. والركيزة الثانية التي اعتمدت عليها إسرائيل والغرب تتمثل بعقدة النقص والضعف، وقمع حرية الرأي واعتقال وقتل المعارضين، وتزوير الانتخابات والتوريث والفساد والإفساد عند الدول العربية، التي نظرت إلى نفسها على أنها دول متسلطة متخلفة وضعيفة، وإسرائيل الدولة المتحضرة والقوية، ويقودنا ذلك للسؤال الأساسي لماذا التبنّي السريع والمستمر من الإعلام الغربي للسردية الإسرائيلية؟ وكيف انهارت السردية الإعلامية الإسرائيلية بعد السابع من أكتوبر؟.

مما لا شك فيه أن التبني الغربي للسردية الإعلامية الإسرائيلية من خلال شبكات الإعلام المتنوعة تجاه القضية الفلسطينية تخلى عن جميع الضوابط والقواعد الأخلاقية والمهنية والحيادية الإعلامية المعروفة، لأن الموضوع يتعلق بإسرائيل، وبنفس الوقت تبنت العداء للعرب. وفي القضايا التي لا تتعلق بإسرائيل يصبح الإعلام الغربي يتمتع بالأخلاق والمهنية ويكيل بمكيالين، فلو نظرنا كيف يتعامل العالم مع القضية الأوكرانية وحول إصدار مذكرتين في 21 تشرين الثاني/نوفمبر 2024، باعتقال رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو ووزير حربه السابق يوآف غالانت، وقالت المحكمة إن هناك أسباباً منطقية بأنهما ارتكبا جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة. وبنفس الوقت عندما تم إصدار مذكرة توقيف من نفس المحكمة الجنائية الدولية بحق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 17 آذار/مارس 2023، بشأن مزاعم جرائم حرب متعلقة بترحيل أطفال و"نقلهم بصورة غير قانونية" من أوكرانيا، تم التأييد والمطالبة بالالتزام من قبل الإعلام والقادة الغربيين لاعتقال بوتين، أما فيما يتعلق باعتقال نتنياهو فقد أصبح مشكوك فيه وغير شرعي، وتم كيل الاتهامات للمحكمة. على الرغم من أن ما قام به بوتين في أوكرانيا لا يمكن قياسه مع ما يحدث من فظائع في غزة، إلا أن الولايات المتحدة ممثلة بالرئيس الأميركي جو بايدن ووزير خارجيته أنتوني بلينكن رفضا اتهام ومعاقبة القادة الإسرائيليين. 

وعلى الرغم من المجازر والحروب وجميع ممارساتها التي تفقدها كلمة دولة بالمعنى السياسي الدولي فهي دولة مستوطنين قتلوا السكان الأصليين واستولوا على بيوتهم وأراضيهم وأقاموا دولتهم على أنقاض أكثر من 500 قرية ومدينة في فلسطين المحتلة عام 1948، ومن ثم على ما تبقى من فلسطين عام 1967، ومن ثم إلغاء اتفاقية أوسلو التي تم توقيعها عام 1993، وتم استبدالها بحكم "المنسق" ولم يتبق للفلسطينيين في هذه الدولة التي تدعي الديمقراطية والتحضر سوى القرى والمدن السكنية المحاصرة من قبل المستوطنات والمستوطنين الذين يقتحمون هذه المدن ويعيثون بها فسادًا وخرابًا وحرقًا. 

أما الحرب المستمرة على القطاع، والتي صنفت ضمن حرب الإبادة والتطهير العرقي والتي راح ضحيتها أكثر من خمسين ألف شهيد غالبيتهم من الأطفال والنساء وأكثر من مئة ألف جريح في حصيلة غير نهائية، إذ لا يزال آلاف الضحايا تحت الركام، وتم تدمير 85% من غزة وتجويع السكان، وعمليات القتل اليومي من خلال قصف مراكز الإيواء والمدارس وخيم النازحين والمستشفيات، وحتى المخابز لم تسلم من الصواريخ الأميركية التي تستخدم في القتل والتدمير منذ أكثر من سنة على القطاع. 

وهذا ما يؤكده قول موشيه يعالون قائد أركان الجيش ووزير الحرب سابقًا، في الأول من كانون الأول/ديسمبر 2024، بأن إسرائيل تنفّذ تطهيرًا عرقيًا في القطاع، تهدم بيوت السكان وتهجّرهم لإقامة مستوطنات. إسرائيل ليست دولة ديمقراطية اليوم، وهي في الطريق لتصبح دولة مارقة تحمل أفكاراً غيبية. كان يجب إصدار مذكّرات اعتقال ضد بتسلئيل سموتريتش وإتمار بن غفير أيضًا منذ زمن طويل فهم يريدون ترحيل الشعب الفلسطيني أو إبادته إن استطاعا أو حشره في معازل وضمن سياسة الأبارتهايد، ورفض إدانة المذكّرات ضد نتنياهو، التي صدرت عن المحكمة الجنائية الدولية لتوقيفه ووزير الحرب المقال غالانت بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب في غزة. ويضيف يعالون الدولة ليست مصنفة كدولة ديمقراطية، والسلطة القضائية ليست مستقلة. نحن في عملية انتقال من دولة يهودية ديمقراطية ليبرالية بروح وثيقة الاستقلال إلى ديكتاتورية ميسيانية، عنصرية، فاشية، فاسدة ومنبوذة. 

فهذه التصريحات تكشف الغرب وبالتحديد أميركا، الذين يكذبون حول وصول المساعدات الإنسانية إلى القطاع للتغطية على حرب الإبادة وحرب التجويع التي تهدف إلى الضغط على الشعب الفلسطيني في القطاع، ولحمل المقاومة على القبول بشروط نتنياهو حول الصفقة، واستطاعت تصريحات يعالون دحض نظرية إسرائيل القائلة إن الحرب التي تقوم بها إسرائيل هي دفاع عن إسرائيل وليست حرب إبادة وتطهير عرقي. 

واستنادًا إلى ما سبق، نرى أن المجتمع الإسرائيلي يرفض تصريحات يعالون على الرغم من معرفته التامة بأن التصريحات حقيقية، إلا أن المجتمع لا يريد أن تكون هذه التصريحات وغيرها دلائل على القيادات السياسية والعسكرية يمكن استخدامها لمحاكمتهم ومحاكمة دولة الاحتلال. 

وتجدر الإشارة إلى أن المجتمع الإسرائيلي ذاهب للتطرف إلى أبعد الحدود، وإن لم يوافق نتنياهو على حلول للقضية الفلسطينية فهو سيأخذ دولة الاحتلال نحو تناقض كبير مع النظام الدولي، أي أن نتنياهو قد يستطيع الحفاظ على نفسه وعلى ائتلافه ولكن ذلك سيكون خطأ وهزيمة استراتيجية، مما قد يدفع الدولة العميقة لاتخاذ إجراءات لإنهاء هذه السياسات وفقاً للقانون طبعًا، حسب رأي الخبير في الشأن الإسرائيلي فراس ياغي. 

ولا بد من التأكيد على أن "الهاسباراه" جهاز الدعاية الإسرائيلية وهندسة الجمهور الغربي من خلال السرديات الإعلامية الإسرائيلية ليست مجرد خطط بسيطة، بل هي استراتيجية مبنية على سياسات استيطانية استعمارية مدروسة لاستقطاب وتوجيه الرأي العام العالمي لتأييد إسرائيل وتحسين صورتها على المستوى الدولي والعالمي. 

فقد بدأت السردية الإعلامية منذ احتلال أرض فلسطين من خلال مقولات مقصودة تهدف إلى تجميل صورة إسرائيل على المستوى المحلي والإقليمي والدولي، واستقطاب تعاطف الشعوب الغربية مع سردياتها التي بدأتها بأنها داعمة للسلام، ولا تمانع التفاوض مع الفلسطينيين لتوقيع اتفاقيات سلام، ولكن العرب يرفضون السلام على الرغم من توقيعهم اتفاقيات عدة مع العرب. وتحاول السردية الإسرائيلية إزالة تهمة الاحتلال والعنصرية عن الدول الإسرائيلية، وفرض سردية الحريات الدينية والحقوق المدنية والعدالة والحقوق المدنية والمساواة ما بين اليهودي وعرب 1948، وأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، حيث تتمتع بحرية الصحافة، والانتخابات الحرة. وتحاول من خلال المظلومية الربط بين تاريخ الشعب اليهودي وما تعرض له من اضطهاد عبر التاريخ، وبين الوضع الحالي، لتأكيد الحاجة إلى دولة قوية، واستدعاء سرديات دينية وتاريخية تتعلق بأحقية اليهود بأرض فلسطين، والترويج لفكرة أن الشعب اليهودي له حق تاريخي في الأرض التي تحتلها. وسردية التركيز على الضحايا الإسرائيليين تستخدم لنشر قصص إنسانية تتعلق بمعاناة الإسرائيليين نتيجة الصراع، وتسليط الضوء على الجانب الإنساني للخسائر الإسرائيلية، لجذب التعاطف معها، وأنها دولة تدافع عن الإنسانية في مواجهة الإرهاب لتبرير الإجراءات الأمنية، مثل الحواجز والاعتقالات والعمليات العسكرية، والتركيز على المقاومة الشعبية وصبغها بصبغة الإرهاب والتطرف من أجل تبرير القرارات العسكرية والأمنية، وذلك لتقويض شرعية أي مقاومة ضدها، تصوَّر إسرائيل نفسها على أنها تواجه تهديدات دائمة من محيطها، وتستخدمها لتبرير العديد من السياسات الأمنية والعسكرية. 

لكن بعد العدوان على قطاع غزة، أصبحت صورة إسرائيل مقرونة بصورة الإبادة والتجويع والمجازر والجنائية الدولية والمحاكم الدولية وقتل عشرات الآلاف من الأطفال والنساء في القطاع والضفة، والهدم والاستيطان في الضفة، وضربت بعرض الحائط القرارات الدولية وحل الدولتين. يمكن القول أن العدوان شكّل قفزة نوعية بالتفاعل الشعبي والطلابي العالمي، والمظاهرات في مختلف الدول، وغيرها من المؤشرات التي يمكن العمل على فهمها بشكلٍ أعمق. 

من الواضح أن غزة أفشلت أساليب التضليل والخداع التي حاول جهاز الهاسباراه الإسرائيلي أن يمارسها لتحقيق التعاطف العالمي في تبيان أنها تدافع عن نفسها، وذلك في سعيها كجزء من المنظومة الغربية الاستعمارية. إذ سرعان ما انكشف كذب العديد من الروايات التي طرحها الإعلام الغربي وتبناها الرئيس الأميركي جو بايدن وإدارته المتصهينة، الأمر الذي أضعف من ثقة الجمهور الغربي بالرواية الغربية، وتم إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة العالمية، وحصلت على دعم شعبي نادر على مستوى العالم، وزادت الضغوط على الحكومات والمنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام للاعتراف بالإبادة الجماعية المستمرة التي ترتكبها إسرائيل والتصدي لها. 

ولكن ما حصل في سوريا منذ بداية كانون الأول/ديسمبر وحتى الثامن وما بعده، يخدم ويصب في مصلحة إسرائيل على جميع الصعد، وفي بدايتها التعتيم الإعلامي على حرب الإبادة والتجويع لغزة وتوجيه زوم الكاميرات العالمية والدولية وحتى المحلية على الحدث الأبرز في سوريا. وعلى الرغم من الضربة القاصمة للقضية الفلسطينية ولبنان والنصر الحقير لإسرائيل فهذا لن يدوم على الإطلاق، ولا بد من رحيل الاحتلال.