اعتاد أدونيس، في مقابلاته وكتاباته، على إطلاق تصريحات تحمل دلالات قاطعة نهائية، تؤسس فعليّاً، لِلنقد ذي البعد الواحد، وتطالب بالتغيير والتثوير من وجهة نظره، لأن المجتمع العربي الإسلامي، منذ البعثة المحمديّة إلى اليوم، متخلّف وتاريخه سلسلة من الدماء والمؤامرات والمرارات، حسب منطوقه. ولدى مراجعاتي لما صدر عن أدونيس من سطور في مقاله بجريدة السفير اللبنانية يوم 13 تموز 2011، حتى تصريحه قبل أيام في باريس، رأيت أنني مضطر لإعادة ما قلته؛ بأن الرجل يغلّف أزمة محتواه الثقافي، بغلاف من الفلسفة والانتقائية التاريخية، ويسقط في وحل التناقضات. فهو بانتقائيته التاريخية يسحب حالة على حالة مختلفة تماماً، لأنه يريد للثورات أن تكون نسخة كربونية وحرفيّة عن صراع الغرب في القرون الوسطى مع الكنيسة الظلامية آنذاك. ويريدنا أن نجتثّ المنظومة الفكرية والثقافية التي شكّلت هويّتنا العربية، على مدار أربعة عشر قرناً، ليحقق بذلك عملية القَطْع مع تاريخنا وجذورنا. والقَطْع هنا أيضاً، فكرة مُسْتَجْلَبة من الغرب، وخارجة عن سياقها في مهمتها مع تاريخنا، لأنها تنتمي إلى المرحلة نفسها التي استقطعها من التاريخ الغربي، وهي مرحلة القرون الوسطى. ومن الواضح أن إغراقه الفلسفي والاصطلاحي لم يخدمه كثيراً، ولم يشفع لأفكاره في تسويق فكرة "الماضي المستمر"، لأن أهم الحقائق المؤكدة في العلوم الاجتماعية هي أن المتغيَّر هو الثابت الوحيد، ولا يوجد ماضٍ مستمرٌّ فكرياً أو فلسفياً، هذه من جديد، واحدة من سفسطات أدونيس الكثيرة، التي ظهرت جلياً في رسالته السابقة إلى رئيسه "المنُتخَب" الهارب بشار الأسد العام2011. وما دمنا في سياق العلوم الاجتماعية، فإن أدونيس رغم حجمه ومنتجه، يخطئ في أبسط التعريفات المتعلّقة بالمجتمع والوطن والدولة. فالمجتمع مجموعة من البشر تعيش على أرض لها تاريخ مشترك "ذاكرة جماعية واحدة"، ولها أهداف مشتركة، ولا ينقص المجتمع العربي أي من هذه الأركان. أما قضية التناقضات بين الفئات الاجتماعية، فهي من مظاهر التجمّع الإنساني، فهل المجتمعات الغربية في قرونها الوسطى والحديثة تخلو من التناقضات؟ إذاً ما هو التنوّع؟ ولا يجوز لأدونيس أن يصوغ على هواه مكوّنات الأمم وثقافاتها، لأنها نتاج تفاعل الفرد/المجتمع بعوامل هائلة ومتعددة تاريخية غير منقطعة، أو مُسْتَقْطعة على طريقة أدونيس، ولا تكون المواطنة بديلاً للدّين أو متناقضة معه. وإذا شئت فتعريف المجتمع المدني هو مجموعة المؤسسات والمنظمات التي تنشأ طوعياً بمعزل عن الدولة، والطوعيّة هنا أساس وشرط، فيما عند أدونيس هي قهرية وغير طوعية.

ومن التعسّف في آراء أدونيس أن يبدأ بنفي العرب وبإخفاقهم، على مدار تاريخهم، في بناء مجتمع مدني، فالاصطلاح أساساً، حديث يعود إلى الموجة الثانية من التغيير الديمقراطي في الغرب، فيما هو أصيل وعريق في الفكر العربي الإسلامي، من دولة المدينة المنوّرة والنقاط الإحدى والعشرين التي بدأ بها الرسول محمد – صلى الله عليه وآله وسلم- وقامت على التعاقد وليس الإِكراه، متقدمة بأربعة عشر قرناً استهزأ بها المفكر الكبير أدونيس، ومروراً بقرطبة والأندلس في أوجها، وكذلك بمرحلة هارون والمأمون ببغداد، إذ إن العدالة الاجتماعية هي الجوهر العملي للدولة المدنية والمجتمع المدني. إن الصراع، الذي تفجرّت على خلفيته الثورات العربية، لم يكن خالصًا من التدخّلات المشبوهة، لكنه بدأ ولا يمكن اجتزاؤه بمجرد صراع سياسي على الحُكم والسُلطة، لأنه نهض على خلفيّة ظلمٍ وغيابٍ للعدالة الاجتماعية، وتفاعلٍ اقتصاديٍّ وفكريٍّ وثقافيّ يسعى للحرية والكرامة والمساواة، بصرف النظر عن مآلاته.

ولا أنكر أن المشهد في أتون عملية التحوّل، كان ملتبساً على الجميع، وربما ساهمت الفوضى والتدخلات المشبوهة والدمار خلال وأثناء التغيير وبعده، في تشويش الفَهم، وربما نفر الناس من عملية التغيير كلها بسبب لونها وخطابها وارتباطاتها، بل ربّما فضّلوا بقاء الظلم والقهر والدكتاتورية على الحرية المقرونة بالدمار والفوضى وغياب الأمن. ما يستدعي من أصحاب التغيير الحالي والآتي، أن يكونوا على مستوى التحدي الهائل الذي يواجهه الجميع، وإلا.

إن تغيير الحاكم لم يكن أولاً، ولم يكن هدفاً إلاّ بمقدار ما يحقق غيابه حضور الحقوق واسترجاع الفضاء الحرّ والعدالة والديمقراطية وتغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، ولم يكن الدّين سبباً في مكوّنات القَهْر والظُّلم وبيع الثروات للغرب والانكسار أمام قوة الاستكبار، بل قامت به أنظمة استبدادية فاجرة ارتبطت بنقيضنا وكانت مكرّسة لخدمته. ولعل رفع الشعب لشعار الدولة المدنية يعني أنه أدرك بوعْيه وليس بتنظير "المفكرين المتغربنين" أن الدولة المدنية هي دولة لا تخدم الاختلاف فقط، وإنما تؤصّل له، وتقبل بممارسته، وهي بالتالي تصهر التنوّع الاجتماعي في هوية وطنية واحدة تحتكم إلى علاقة تعاقدية تقوم على قانون المواطنة. إن ما يجري في العالم العربي هو أكثر اتساعاً من الصراع على السُّلطة، بل يؤسس لتحوّلٍ هائلٍ وعميقٍ وواسعٍ في الواقع المحلي والإقليمي والدولي، ويضع الشعوب العربية في وجه غاصبيها المحليين والإقليميين والدوليين. وفي دفاع أدونيس عن حقوق الأقليّات وهويتها سقط في خطأ منهجي في مسألة تتعلّق بالديمقراطية، لأن جوهر الديمقراطية يقوم على سُلطة الشعب، بغضّ النظر عن فكره وعقيدته وجنسه ولونه، وأدونيس بذلك ضيّع الأكثرية والأقليّة عندما شطب حقّ الأكثرية، ووضعه بصيغة متناقضة مشتبكة مع الأقلية، فيما هو في الحقيقة يرجع إلى العلاقة التعاقدية بين الأفراد والدولة، فالمواطنة قانون يحتوي الجميع. إن القهرية في نموذج الديمقراطية الغربية مسألة فكرية شائكة، ما زالت ميداناً للنقاش والحوار والنقد بين المفكرين؛ ليبراليين وديمقراطيين غير ليبراليين. وإنَّ سَحْب هذه المسألة على الأقطار العربية، التي لم تؤسس نموذجها الديمقراطي بَعْد، هو استباق في غير محلّه. إن صبغ التاريخ العربي الإسلامي بلونٍ واحدٍ هو الدم والعنف والقهر إنما يشير إلى عمى لا ضرورة له، أو انتقائية مشبوهة، فالتاريخ العربي الذي أعطى الحضارة الإنسانية الكثير من حمولتها المضيئة وكنوزها؛ لم يشهد أن تَخلَّقت في حضنه- كما حصل في الغرب- ظواهر فاشية أو نازية، ولم يقم المسلمون والعرب بإبادة الملايين في العالَم الجديد، وقصف القنابل الذريّة ومحاكم التفتيش وحربين عالميتين والمكارثية، بل إن التاريخ العربي الإسلامي يشبه تاريخ الحضارات الإيجابية التي أصابت وأخطأت، ولا يجوز اختزال نتاجها بصفة رديئة مسيئة واحدة، تطبعها بالإجرام والتخلّف والسواد. إن الصراع ظاهرة تاريخية، ويعتبره الكثيرون مُحرّكاً للتاريخ، فيما الدمويّة نزعة فردية أو نتاج أزمات اجتماعية اقتصادية، لا تطبع وجه التاريخ لأيّ شعبٍ كان. وأنا لا أدعو لتنقية تاريخنا، بقدر ما أطالب بالموضوعية، وأن نذكر الاشتعالات مع الإخفاقات.
لقد وقع أدونيس في التنميط وفي تكرار المقولات الجاهزة الظالمة، دون أن يفحص أو يمحّص، إذ تقصّد واستسهل أن يكرّر مقولات غربية استشراقية عن العرب والمسلمين. ونسأل: لماذا لم يذكر أدونيس البطش المهول والمرعب للنظام السوري، ولما يفعله الغرب"المتحضّر" في غزة وهو يدعم الإبادة ويستسيغها؟ ولماذا لم يستنكر أدونيس هذه المحرقة المدوية، بكلمة واحدة؟ أم أنه يراعي مشاعر مَن يقدّمون له الجوائز؟ ولماذا ينتقد المعارضة بسبب لونها الإيديولوجي، ويذهب بها إلى الجدار المُغلق؟.

من كل ما مضى يظهر أن ثورة أدونيس تقتصر على مفهوم واحد، وهو ضرورة حُكم الأُمّة من خارج ثقافتها.
في المقابل؛ أدرك أن ثمّة خطاباً ثقافيًا اختار أن يقف على الرصيف، وهو بالتأكيد، لن يستطيع إدراك الماضي وتحديد المخاطر والانتصار عليها، لأنه ببساطة توقف عن العقل والعمل. وخطابنا الثقافي اليوم، يشبه حالتنا، ولا يختلف عن واقعنا كثيرًا. بمعنى أن فعل الغرب الاستعماري الهادف إلى بقائنا في حالة ضياع وتشظية وعدميّة وجهل ونهب واستلاب وتغريب وصدام ومغايرة وانقسام، قد نجح إلى حدّ كبير، ليس لأنه استراتيجي ومتواصل وشمولي ومدعوم فحسب، بل لأننا لم نخلق النظرية القادرة على خلق فعل أكبر لاستيعاب ومواجهة تلك الاستراتيجيات الحاسمة، وأعني على الأقل، خلق فعل ثقافي فكري يكون قادراً على تعرية المؤامرة ومكوّناتها وأطرافها، وإنهاض عوامل البقاء والوحدة والهوية والانتماء والحضور على أرض الحرية والتعددية الطبيعية التي تُثري، وعلى مبدأ التجريب والحداثة المتصلة بالأصل والجذر، ومن منظور النقد باعتباره حالة دائمة وهدفاً تصحيحياً، بعيداً عن الإعدام أو الإتهام أو الوقوع في مقولات الإستشراق، أو تبني الأفكار الجاهزة أو الشعبوية أو المعدّة سلفاً.