بقلم: هديل أبو ريال

في شوارع  مدينة جنين الضيقة والموحشة، حيث يواجه السكان تحديات الحياة اليومية وسط اجتياحات احتلالية وحواجز واقتصاد متعثر، كان الشاب محمد شواهنة (32 عاماً) يقترب من تحقيق حلم بسيط يجعله مستقلاً مالياً، ويعينه على متطلبات الحياة.

اشترى محمد كرفاناً صغيراً ليصنع فيه الكباب مع المناديل، وقد بدأ المشروع بصحبة شريكه ليكون أملاً جديدًا لهما وسط أجواء مليئة بالضيق والصعوبات. لم يكن يعلم أن هذا الكرفان، الذي وضع فيه كل آماله، سيكون شاهدًا على حلم محطّم في يوم من الأيام.

في البداية، كان كل شيء يسير حسب المخطط، فهنا كانت تباع الوجبات في ساعات المساء حتى منتصف الليل، وبدأ المشروع يحقق النجاح، وأصبح يرتاده الزبائن بشكل دائم.

الحلم أخذ يكبر في قلب محمد وشريكه، والأمل يزداد مع مرور الوقت، وبدا أن الحياة غدت أفضل، فلم يكن "الكرفان" مجرد مصدر دخل بالنسبة لمحمد، بل كان مشروع حياة. كان يعمل في هذا الكرفان يوميًا، ويعيش فيه معظم وقته. لم يكن يرى أسرته وأصدقاءه كثيرًا بسبب انشغاله وانخراطه في العمل.

في صباح يوم تشرين الثاني 2024، استفاق على خبرٍ لم يكن يتوقعه. وصلته رسالة على هاتفه تحتوي على صورة للكرفان مقلوبًا، حلم العمر تحطم بفعل احتلال يجتاح مدينته بشكل شبه يومي.

عند الحديث عن مشروعه، يبتسم محمد، لكن يمكن قراءة الحزن الساكن في عينيه.

بدأت فكرة الكرفان مع شريكه كمجرد حلم صغير. كانا يفكران في فتح مشروع بسيط يضيف لهما مصدر رزق إضافي، قررا أن يبيعا الكباب مع المناديل في أحد الشوارع الصغيرة. شرعا في تجهيز كل شيء بعناية، لأنهما كانا يعرفان جيدًا أن الفرص في مدينتهما نادرة، وأن العمل الجاد قد يكون مفتاحاً لأبواب جديدة، لكن لم يكن في الحسبان أن الحلم سيتحطم فجأة.

ما لم يره محمد، وربما لم يتوقعه، هو الخسارة المعنوية التي ترافق أي حلم مكسور، ويتابع قائلاً: "أنت لا تفقد فقط المال أو الممتلكات، بل تفقد جزءًا من نفسك".

ويضيف: "هذا الكرفان كان جزءًا من حياتي. كنت أعمل فيه يوميًا بكل طاقتي. كان الكرفان رمزًا لأملنا في حياة أفضل، وتحطمه يعني تحطم جزء كبير من هذا الأمل".

كانت الخسارة المادية جسيمة أيضًا لشاب يكدّ ويتعب ليستجمع القرش على القرش في ظل ظروف صعبة، إذ بلغت الخسارة أكثر من 15 ألف شيقل. المواد التي كانت موجودة داخل الكرفان، من اللحمة والدجاج إلى الخضار، كلها تلفت، والثلاجات تضررت، والأدوات تم تدميرها بالكامل، كل شيء ضاع. وحتى الخزان والمغسلة أصبحا في خبر كان.

يدرك محمد أن الاحتلال لا يقتصر فعله على تدمير الممتلكات فقط، بل يحاول كسر كل الأحلام والأفكار. يؤمن أنهم يضيقون علينا في كل شيء، في العمل، وفي الحياة، وفي أبسط الأشياء. فهي سياسة ممنهجة لمحاربة الأمل.

لا يرى محمد أن عمليات التدمير عابرة، فالشوارع مدمرة، والاقتصاد يدفع  إلى حافة الانهيار، دون أي مساعدة من أية جهة، وهو لا يفكر حالياً في نقل مشروعه إلى مكان آخر، فالوضع الصعب يفرض ذاته، لكنه لا يزال يتمسك ببصيص الأمل،  فهو يعمل حاليًا في محل هواتف، يوفر له مصدر دخل يعينه على الحياة، لكنه لا ينسى خسارته المريرة للكرفان.

رغم التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي تعصف به، يظل محمد يشق طريقه بخطى ثابتة، غير مستسلم لتقلبات الحياة. يحلم أن تعود الأمور إلى طبيعتها، ربما يومًا ما يعود للعمل في الكرفان. وإن اشتدت الظروف قسوة سيتجاوزها، لأنه يدرك أنه لا عنوان للاستسلام في قاموسه.

لم يكن كرفان محمد مجرد مشروع تجاري، بل كان حلمًا فلسطينيًا صغيرًا يسعى للنجاة وسط بحر من التحديات. في جنين، حيث يصعب على الإنسان أن يحقق ما يريد، تصبح الأحلام الصغيرة أهدافًا عظيمة. ورغم أن حلمه قد تحطم، إلا أن قلبه لا يزال ينبض بالأمل.