بقلم: بشار دراغمة

في زاوية مرتفعة على قمة جبل جرزيم، حيث يسكن الألم في التفاصيل اليومية وتتنفس الأرض ذكريات الحنين، وقف جزء من حي الضاحية العليا في نابلس على حافة الهاوية، لم يكن ذلك الجزء من الحي يومًا مجرد مكان، بل كان جدارية من أحلام تراكمت فوق حجارة المنازل، التي امتزجت بقلق وصل حد الدموع إلى عيون الأطفال.

عشرة منازل، تعني عشرات العائلات التي تزدحم بالذكريات والأماني، أفاقت على صباح حزينٍ حين طرق الباب احتلال يحمل في يده رسالة الهدم. كان الحبر الأسود على الورقة البيضاء أشبه بخنجرٍ غُرس في قلب كل عائلة. وبينما الآباء يتفحصون تلك الورقة بخوف، كان الأطفال يحدقون في وجوه الكبار بحثًا عن إجابة لتساؤلاتهم البريئة: "هل سنفقد غرفنا وملاذنا؟".

وقالت الطفلة راما عديلي، بصوت مشوب بالبراءة والحزن: "كان بيتنا عالمًا مليئًا بالدفء. فجأة، أصبحنا نعيش في خوفٍ لا يوصف، يقولون إن علينا أن نهدم بيوتنا بأيدينا، كيف يمكن ليد بناءة أن تتحول إلى يد هادمة؟" كانت كلماتها مثل طعنةٍ في ضمير الإنسانية، وكأنها تقول الاحتلال لا يكتفي بهدم الحجارة، بل يهدم الأرواح.

ويقول حمدي أبو الحيات، أحد سكان الحي: إن "المواطنين باتوا يعيشون على حافة الهاوية، مشيرًا إلى أن عددًا من المواطنين في حي الضاحية العليا تسلموا إخطارات الهدم بحجج واهية، تارة يقول الاحتلال إن الأرض أثرية وتارة أخرى يزعم أن المنازل بُنيت دون تراخيص".

كان حديثه أشبه بخطبةٍ تُلقى في جنازة، لكنها جنازة لا جثمان فيها سوى الحلم، الحلم الذي كان يراه في أعين أطفاله حين كان يعود إلى البيت بعد يوم عملٍ شاق، ليجدهم يتسابقون للقائه عند الباب.

ويرى أبو الحيات أن الاحتلال لا يهدم بيتًا وحسب؛ بل يهدم مجتمعًا بأكمله. كل إخطار هدم هو إعلان حرب على الاستقرار النفسي والاجتماعي، هو تجريد الإنسان من إحساسه بالأمان، وزرع اليأس في القلوب التي تأبى أن تستسلم.

حين تجول في أزقة الحي، ترى ملامح التحدي مطبوعة على الوجوه. لا يهم إن كنت شابًا في مقتبل العمر أو شيخًا تجاوز السبعين، الجميع هنا يُدركون أن الاحتلال يريد أن يجعلهم غرباء في وطنهم. لكن في قلب هذا الحزن، ينبض إصرار غريب. يقول أبو الحيات: "قد يُهدم البيت، لكن الأرض ستظل شاهدة، نحن نزرع في أبنائنا حب هذه الأرض، ولن يستطيعوا اقتلاع جذورنا".

في حي الضاحية لا تزال العائلات تنتظر، كل يوم يُشبه يوم القيامة، كل صوتٍ غريب يشعرهم أن الجرافات قادمة، لكن وسط هذه العتمة، يُضيء نور صغير، هو نور الصمود. فالاحتلال قد يُسقط الجدران، لكنه لن يستطيع أن يُسقط الصمود على الأرض، وفق ما تقوله زوجة الأسير سمير كوسا الذي يقضي حكمًا بالسجن مؤبدين و30 عامًا.

كوسا التي عاشت تجربة هدم منزلها بعد اعتقال الاحتلال زوجها، واحتاجت سنوات حتى لملمت ذاتها وتمكنت من بناء بيت جديد، تخشى من تكرار تجربة الهدم مرة أخرى.

وفي مشهد يفيض بالعزيمة والتلاحم، يتجمهر سكان حي الضاحية يوميًا، يضعون على منازلهم لافتات تتحدى الاستيطان وترفض قرار الهدم.

ويؤكد محافظ نابلس غسان دغلس أهمية تكاتف وتكثيف الجهود القانونية والشعبية للتصدي لهذه الإجراءات التي تهدف إلى اقتلاع الفلسطيني من أرضه وتهديد وجوده، مشددًا على أن صمود الفلسطينيين ووقوفهم معًا هو السلاح الأقوى أمام سياسات الاحتلال الغاشمة والتعسفية.