لنتحدث بوضوح وسط المأساة المستمرة في غزة، حيث تتوالى الجرائم الإسرائيلية بلا رحمة، تظهر حكمة سيادة الرئيس محمود عباس أبو مازن ورؤيته العميقة، كصمام أمان للشعب الفلسطيني. هذه الرؤية التي حذرت منذ سنوات من مغبة العناد والانقسام الداخلي، وشددت على أن المواجهة مع الاحتلال لا يمكن أن تدار بالعاطفة وحدها، بل تحتاج إلى استراتيجية حكيمة تبقي على القضية الفلسطينية حية، وتحمي أرواح الأبرياء. ومع ذلك فإن جزءاً من الكارثة التي نعيشها اليوم كان يمكن تفاديه لو أن بعض الأطراف، وعلى رأسها حركة حماس، استمعت ونفذت هذه الرؤية الوطنية.
منذ سيطرة حركة حماس على قطاع غزة عام 2007، دخلت القضية الفلسطينية في مرحلة انقسام سياسي عميق أثر على كل مناحي الحياة الفلسطينية، وحماس التي جاءت بشعار المقاومة انحرفت عن هدفها الأساسي، وساهمت في تعميق الأزمة الداخلية رافضة كل محاولات السلطة الفلسطينية لتوحيد الصف الفلسطيني. وعلى مدى السنوات أظهرت حماس إصراراً على اتخاذ قرارات فردية، دون الرجوع إلى إجماع وطني، ما جعل الشعب الفلسطيني رهينة لهذه السياسات غير المدروسة.
في وقتٍ كان الرئيس محمود عباس يحذر من مخططات الاحتلال التي تستهدف اقتلاع الشعب الفلسطيني، وتهويد أرضه، كانت حماس تنفذ سياسات تصعيدية تعزز الانقسام، وتزيد من عزلة غزة عن محيطها الفلسطيني والدولي. لقد رفضت حماس كل المبادرات التي قدمتها السلطة لإنهاء الانقسام، واستمرت في رهن قرارها السياسي بأجندات خارجية لا تخدم القضية الفلسطينية، وبدلاً من أن تكون حماس عنصراً داعمًا للنضال الفلسطيني، أصبحت عائقاً أمام وحدة الصف الفلسطيني، وهو ما استغله الاحتلال الإسرائيلي بذكاء لتنفيذ مخططاته.
الرئيس ومن خلال إدراكه العميق للواقع دعا مراراً إلى ضرورة التوحد، وتجنب التصعيد غير المحسوب. دعوته الأخيرة لتوفير الحماية الدولية للشعب الفلسطيني لم تكن دعوة ضعف بل كانت رؤية استباقية تهدف إلى الحفاظ على أرواح الفلسطينيين، وتجنب المزيد من الدمار الذي نراه اليوم، لكن هذه الدعوة قوبلت من حماس بالتجاهل والاستهزاء بحجة أن المقاومة وحدها هي الحل دون أن تأخذ في الاعتبار الثمن الباهظ الذي يدفعه الشعب الفلسطيني نتيجة هذه السياسات. الرئيس عباس لم يكن أبداً سياسياً يلهث خلف الشعارات أو العواطف، بل كان رجل دولة يدرك أن السياسة هي فن الممكن، وأن القضية الفلسطينية تحتاج إلى قيادة حكيمة قادرة على قراءة الواقع بكل تفاصيله. ولعل الأحداث الأخيرة أثبتت صحة موقفه، حيث أظهرت أن الخطوات المدروسة والحكيمة هي الوحيدة القادرة على حماية الشعب الفلسطيني والحفاظ على قضيته.
ما حدث في السابع من أكتوبر كان مثالاً واضحاً على القرارات غير المدروسة التي تتخذها حماس. الهجوم الذي قادته الحركة على المستوطنات الإسرائيلية، ورغم أنه أثار عواطف الشعب الفلسطيني، لم يراع التوازنات الدولية، ولا قوة الاحتلال العسكرية. كان الاحتلال ينتظر مثل هذه الفرصة بفارغ الصبر واستغلها ليشن عدواناً شاملاً على غزة، عدواناً استهدف البشر والحجر وحول القطاع إلى ساحة حرب مفتوحة من الإبادة للكل الفلسطيني، وهكذا فتحت حماس الباب أمام الاحتلال ليبرر جرائمه أمام العالم، ويمارس الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين تحت ذريعة الدفاع عن النفس.
لكن الضفة الغربية التي كانت هدفاً رئيسياً للاحتلال تظهر بوضوح الفرق بين نهج الرئيس عباس ورؤية حماس، فبينما تصرفت حماس بعاطفة ودون دراسة، تبنى الرئيس عباس استراتيجية حكيمة أفشلت المخطط الإسرائيلي في الضفة. الاحتلال الذي كان يسعى لتحويل الضفة إلى ساحة صراع مفتوحة وجد نفسه محاصراً بسياسة مدروسة من القيادة الفلسطينية، حيث رفض الرئيس عباس الانجرار إلى التصعيد غير المحسوب، ونجح في حماية الضفة من كارثة مشابهة لما يحدث في غزة، رغم التجاوزات الإسرائيلي.
اليوم، يجب أن نسأل أنفسنا بصدق أين وصلنا بسبب سياسات حماس؟ هل ساهمت هذه السياسات في تحسين وضع غزة أم أنها زادت من عزلة القطاع، وأضعفت الموقف الفلسطيني أمام العالم. الشعب الفلسطيني في غزة يدفع الثمن الأكبر حيث يقتل الأطفال وتهدم البيوت، بينما تستمر حماس في اتخاذ قرارات فردية دون النظر إلى عواقبها. هذا لا يعني أن الاحتلال لا يتحمل المسؤولية الأساسية عن الجرائم في غزة، لكنه يعني أيضاً أن القيادة الحكيمة والرؤية الموحدة كان يمكن أن تجنبنا هذا الكم الهائل من المعاناة.
الرئيس عباس رغم كل التحديات كان ولا يزال يسعى لإنقاذ الشعب الفلسطيني مما يحدث اليوم، فدعوته لتوفير الحماية الدولية وتحذيراته المتكررة من الانجرار وراء العواطف كانت تستند إلى خبرة طويلة ومعرفة دقيقة بطبيعة الاحتلال ومخططاته. ومع ذلك فإن حماس أضاعت هذه الفرصة، واستمرت في نهجها الذي لم يجلب لغزة سوى المزيد من الدماء والدمار.
الشعب الفلسطيني يستحق قيادة تضع مصلحته فوق كل الاعتبارات. قيادة تسعى للوحدة بدلاً من الانقسام، وتتخذ قرارات مدروسة بدلاً من التصرف بعاطفة أو استجابة لأجندات خارجية. اليوم نحن بحاجة إلى دعم رؤية الرئيس عباس، والوقوف خلفه لإنقاذ ما تبقى من غزة، ولإعادة القضية الفلسطينية إلى مسارها الصحيح. غزة ليست مجرد مكان بل هي رمز للصمود الفلسطيني، ولا يمكن السماح بأن تتحول إلى ضحية سوء التقدير.
التاريخ لن يرحم أحداً، سيكتب في صفحاته أن الحكمة والرؤية الصحيحة كانتا موجودتين، ولكن العناد والسياسات الفردية حالتا دون إنقاذ الشعب الفلسطيني. يجب أن نتعلم من دروس الماضي ونعمل على إنهاء الانقسام ودعم القيادة الفلسطينية في بناء مستقبل أفضل لفلسطين. غزة بحاجة إلى الوحدة، والضفة بحاجة إلى الاستقرار، وفلسطين بحاجة إلى قيادة حكيمة تعمل من أجل الجميع وليس من أجل المصالح الحزبية الضيقة.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها