بعد كل ما جرى في الشرق الأوسط منذ طوفان حماس، وبعد أن تغير وجه المنطقة أصبح من الضروري أن يعمل المجتمع الدولي على وقف الحرب في قطاع غزة على الفور لأنه لم يعد هناك أي سبب لاستمرارها، لا من حيث مزاعم الأمن الإسرائيلي، فمحور المقاومة تلقى ضربة قاسمة، ولا من حيث ترتيبات اليوم الثاني، فهذه المسألة يمكن وضع التفاصيل بشأنها خلال وقف العدوان، كما يجري مع لبنان كل شيء في قطاع غزة يبدأ من وقف الحرب، أما الخطوة الثانية أن يسلم القطاع إلى السلطة الوطنية الفلسطينية الشرعية المعترف بها دوليًا، في إطار اتفاق يضمن انسحاب جيش الاحتلال الكامل من القطاع، واحلال القوة الأمنية الفلسطينية، ويمكن أن يساعدها في مرحلة انتقالية متفق عليها ومحدودة زمنيًا، قوات عربية ودولية يتم الاتفاق بشأنها. ويمكن استنساخ لجنة المراقبة الدولية من اتفاقية لبنان، لحصر السلاح بيد السلطة الوطنية وحدها، ولكن سؤال أي قطاع غزة نريد، هو السؤال المطروح على طاولة الشعب الفلسطيني بالأساس؟.

وقبل أي إجابة، وبعد أن يكون هناك ورشة عمل ضخمة لإعادة بناء القطاع بمنطق العصر، علينا أن نحدد ما الذي يعنيه هذا القطاع للشعب الفلسطيني؟.

يشكل قطاع غزة الجزء الأهم من إقليم الدولة الفلسطينية، فهو المنفذ البحري لهذه الدولة ومينائها للتصدير والاستيراد، وهو مصدر الطاقة (الغاز)، ومناخ يصلح لأنواع محددة من المزروعات، وطاقة بشرية كبيرة، والأهم دور القطاع التاريخي في صياغة الهوية الوطنية الفلسطينية والمحافظة عليها، ودوره في كونه الرئة الاقتصادية الأهم، إلى جانب منطقة الأغوار والأماكن المقدسة والتاريخية والأثرية في الجانب السياحي.

وثمة حاجة للتذكير في النقاش الاقتصادي الذي رافق توقيع اتفاقيات أوسلو في مطلع تسعينيات القرن الماضي بخصوص قطاع غزة، فقد كان هنا حديث طموح، لم يكن يخلو من بعض الأحلام، لكنه حديث ملهم في أن نحول قطاع غزة إلى ما يشبه هونغ كونغ أو سنغافورة، بأن نحوله إلى منطقة اقتصادية حرة، منطقة تصلح لتوطين رأسمال محلي وإقليمي ودولي في مشاريع صناعية ضخمة وفي مجال الطاقة والسياحة تشمل ميناء ومطارًا وبنية مصرفية وقطاع خدمات ضخم، لايستوعب كافة الأيدي العاملة في القطاع بل من الضفة أيضًا وربما من الأردن وغيرها.

باختصار نريد غزة عامل بناء واستقرار وتنمية، أن تكون الجزء الاقتصادي من الدولة الفلسطينية، فيها فرص عمل ومجال للاستثمار، منطقة تتطور فيها الإبداعات، وتشجع المبادرات الفردية والجماعية، منطقة نظيفة بيئيًا واجتماعيًا، بعيدًا عن أي تطرف بأي اتجاه، دون أن تفقد هويتها الوطنية، بل تسهم في تغذيتها وتطويرها بما ينسجم مع العصر.

قطاع غزة يمتلك إمكانيات هائلة، وكل ما ينقصه إدارة حكيمة طموحة، تقوم بردم الفجوة التي كرسها انقسام دام 17 عامًا، ودمج القطاع مع نصفه الآخر الضفة سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا، هذا الدمج لن يتم بشكله الصحيح إلا إذا تم الاهتمام بالإنسان بصحته وتعليمه وتهيئة فرص العمل له، وأن يكون مطمئنًا لمستقبله. ما تمت الإشارة له لن يتحقق إلا في إطار مشروع وطني تنموي يشمل كافة مجالات الحياة، ولعل العملية التعليمية هي جوهر كل الأشياء، فأي حديث عن تنمية أو بناء اقتصاد قوي، أو بناء مجتمع حيوي نشط بدون تعليم عصري، ينتج الإنسان المعرفي، الطموح المبادر، الإنسان الذي يؤمن بقدراته حر مشارك في الحياة العامة. وقادر على اتخاذ القرار المناسب.

قطاع غزة بقدر ما يمكن أن يكون مكانًا لخلق التوتر والعنف، فإنه يمكن أن يصبح مصدر الاستقرار والازدهار، وبالتالي مصدر الأمن المستدام لجميع الأطراف. القطاع الفقير بدون أي خدمات وفرص عمل سيكون حتمًا وصفة التوتر والعنف، أما القطاع النامي والمزدهر اقتصاديًا بالتأكيد سيكون مصدرًا للأمن والاستقرار. القطاع الذي نريد هو المكون الاقتصادي لدولة فلسطين، الحرة المستقرة والآمنة، بدون احتلال، بدون ظلم، نقطة ارتكاز لأمن إقليمي راسخ.