تأخرت عليّ كثيرًا، يا أديب ألمانيا توماس بالك، تأخرت بردك على رسالتي الأخيرة، وقد حسبتك لن ترد بعد أن تعددت المجازر والمذابح، واندفع الشر، وعلت ألسنة اللهب، لكن رسالتك هذه التي وصلت إلي أخيرًا شجعتني كي أرد على سؤالك: نحن في الغرب عرفناهم، كما أنتم في الشرق عرفتموهم؟ نعم يا توماس، أنا أتابعهم في بلادي منذ 76 سنة، أتابع أفعالهم، وممارساتهم الشائنة، أتابع أقوالهم الملأى بالثقوب مثل الجبنة السويسرية، وأتابع أحلامهم التي تريد جمع سعادات الدنيا كلها بين أيديهم، وأتابع سلوكياتهم الغارقة في الوحشية، والمتعطشة للدم، وأتابع أصواتهم المنادية بالتفوق والاستعلاء، والمدعية أنهم الوحيدون القريبون من السماء، وأتابع خطاهم القائلة بأنها أشبه بخفي (هرمس) الجالبة للحظوظ والسرور، وأتابع ما يقوله العالم عنهم، من كل جهات الأرض، فأرى وأدرك ما فعلته أذيتهم بالناس، وكيف أنهم احتكروا الحياة، فعدوها خاصية لهم وخاصة بهم، وكذلك هي حالهم مع المال، والسلطة، والاستكبار، والغرور، والقول جهرًا، ومن دون حجج مقنعة، ومن دون حياء في الأسلوب، بأنهم أبناء الله وأحباؤه، أما الآخرون، فهم عبيده وكفى.
نعم، يا توماس، أتابعهم تأملاً، وبحثًا، وشرحًا، لأرى ما يجول في عقولهم ونفوسهم، وما تسعى إليه خطاهم، ولماذا يريدون تركيع العالم كله، وليس أبناء شعبي الفلسطيني وحدهم، فلا أجد فيهم سوى (الشر الجميل) الذي تجسده القوة العمياء ذات الطيوف المتعددة، قوة عمياء في السلطة السياسية، وقوة عمياء في تبني المعتقدات ونشرها، قوة عمياء في المال لشراء كل شيء من الحذاء إلى العقل إلى السلوك، وقوة عمياء في الصحف وسائر المنابر كيما يصير كل ما يقولونه، وكل ما يفكرون به، ويحلمون به، هو الحق المشتهى والحياة التي تخصهم وحدهم، وعلى الآخرين أن يقبلوا راضين، وإلا عليهم أن يقبلوا خاضعين راكعين، مستسلمين بعدما جعلوا عقولهم، وعقول الآخرين، محيدة، وخطاهم حبيسة الحيرة، وأحلامهم تمضي من إخفاق إلى آخر، والأدهى هو القوة العمياء التي لاتبصر أي معنى أو سلوك للأخلاق، قوة عمياء لا تعرف الندم أو الاعتذار، أو القيم، قوة عمياء ترى في كل ما تفعله حقًا وخيرًا وجمالاً.
نعم يا توماس، أتابعهم لأعرف أي بشر هم، ومن أي طينة جبلوا، وأي طباع توارثوها، ولماذا هم على هذه الصورة التي يخافها ويخشاها العالم غربًا وشرقًا وشمالاً وجنوبًا، ولماذا هم منشغلون بصناعة اللوبيات الضاغطة على الدول والشعوب، والمؤسسات والهيئات ومراكز القوة والنفوذ في العالم، ثم لماذا هم، ومن خلال ساستهم، يهددون منطقة الشرق الأوسط بإعادة الترتيب والأولويات، ويهددون بالتغيير، وزرع الشقاق والاختلاف، وفي هذه المنطقة دول وريثة حضارات أعطت صفوة عقول أبنائها للدنيا من أجل ترسيخ حضور القيم النبيلة السامية والسلام، ولماذا يريدون ترتيب منطقة الشرق الأوسط وتغييرها وفق ما يريدون، وأين هي اعتبارات العقائد، والعادات والتقاليد والأعراف، والتصورات الخاصة بكل بلد وشعب؟.
نعم، أتابعهم، يا توماس، لأعرف لماذا يتبنون القوة العمياء في كل شيء، ولماذا يتجاوزون كل سؤال، وكل غاية، وكل رغبة. بالقوة، والقوة لا تعني شيئًا سوى الإرغام، والفرض، والسيطرة، وقباحة الوجه والسلوك، وسوء العاقبة، وهل القوة التي يتبنونها سلوك بشري صحيح، أم هو سلوك بشري معلول؟.
توماس، منذ وجودهم، أعني الإسرائيليين، في بلادنا الفلسطينية على حساب شعب، وأرض، وقيم، وتاريخ، وأحلام، وهم يتبعون ثقافة الإخافة ليس لنا فقط، وإنما لكل شعوب المنطقة، وهم ينهجون نهج ثقافة التهديد الصريحة الجهيرة لنا ولكل أبناء المنطقة تحت سمع العالم وبصره، ولا أحد في هذا العالم يصوب أغلاطهم الفاقعة، ولا أحد يصرح أو يهمس بأن ما يفعلونه هو وحشية وعنصرية، واعتداء على القانون الدولي، وعلى جوهر المعاني الإنسانية، وعلى الأخلاق، والحس البشري، إنهم يا توماس، ومنذ احتلالهم لأرضنا الفلسطينية، وهم يشنون كل أشكال الحروب علينا، سواء أكنا داخل بلادنا أم كنا في المنافي، هم لا يريدون لنا سوى الموت، والمحو، والتلاشي، والذوبان. وها هم منذ سنة وأزيد يقتلون ويدمرون، ويخربون ويعتقلون، ويهجرون ويشردون الصغار والكبار، والرجال والنساء، ولا يريدون لأحد في الدنيا كلها أن يسألهم لماذا يفعلون ما يفعلون.
منذ سنة وأزيد يشنون حرب القتل العمد، والتدمير البين، والتجويع، والتعطيش، والمطاردة، ومنع الأهالي من ممارسة أي عمل، يهدمون بقنابلهم كل معمور، ويلاحقون كل متحرك حي بطائراتهم كيما يقتلوه، ويحرقون الكتب كي يخفوا عافية الحياة والعقول معًا.
بلى يا توماس، لقد صبغوا أراضينا بالدم، وغمروا الفضاء بالخوف، مثلما غمروا مقابرنا بالنواح، ومثلما غمروا الدروب بالوحشة القاتلة، ولا روائح تعم المكان سوى روائح البارود والجثث التي ما زالت تحت ركام البيوت.
توماس، أيها الكاتب الصديق، ألم يصل بكاء أمهاتنا وأطفالنا العالي الضاج إلى بلادكم بعد، ألم تروا على شاشات التلفزة عندكم ما يفعله الإسرائيليون بنا، ألم تروا البيوت التي دمرتها القنابل، والأطفال الذين قتلتهم القنابل، والدروب والحياة التي قطعتها القنابل.
أعرف يا توماس، أن لا جدوى من أسئلتي، لأنني أعرف ما يعنيه قول الحق: من أمن العقاب، فعل ما يسيء.
تعليقات القرّاء
التعليقات المنشورة لا تعبر عن رأي الموقع وإنما تعبر عن رأي أصحابها