مع أن الشعب الأميركي والعالم عمومًا بما في ذلك أهل النظام العربي الرسمي والشعب الفلسطيني خصوصًا عايشوا الرئيس دونالد ترامب أربع سنوات سابقة في دورته الأولى 2016 /2020، وتعرفوا على أبرز ملامح برنامجه وسياساته تجاه الملفات المركزية الداخلية والخارجية، والتي حرص أثناء حملته الانتخابية التأكيد على الغالبية منها، ولم يخفها، ولم يحاول طلائها بمساحيق التجميل لتضليل الرأي العام الأميركي والدولي، وهذه إحدى سماته، التي ميزته عن إدارة الرئيس الحالي جو بايدن، وعن منافسته الديمقراطية كمالا هاريس، التي لم تتمكن من تمييز نفسها عن رئيسها وإدارته المهزومة، مما أفقدها الكثير من المصداقية، مع أنها أبلت بلاءً حسنًا في حملتها الانتخابية، رغم قصر زمن حملتها الانتخابية.
أضف إلى ذلك، هناك سمة أخرى، حكمت، وما زالت تحكم سياسات ونهج الرئيس الـ47 للولايات المتحدة، وهي تموضعه في خنادق الصفقات، بحكم تاريخه الطويل في عالم المضاربات والعقارات. وهذه الميزة غالبًا ما تلقي بظلال كثيفة على برنامجه في نقاط بعينها، دون أن تنتقص من عنصريته، وهويته اليمينية المتطرفة، رغم أنه حرص نسبيًا للتخفيف منها في حملته الانتخابية الأخيرة، مستفيدًا من تجربته السابقة، ومن حكمة رئيسة حملته الانتخابية، سوزي وايلز، التي اختارها أمس الجمعة 8 تشرين ثاني/نوفمبر الحالي كبيرة موظفي البيت الأبيض، أو رئيسة ديوان الرئاسة، التي حرصت على إبعاد الغوغائيين عنه قدر ما استطاعت.

وبالعودة للعوامل الرئيسية، التي من خلالها يستطيع المراقب استشراف بوصلة إدارته الجديدة: أولاً تركيبة الإدارة، والشخصيات النافذة فيها من وزراء ومستشارين ومؤثرين في رسم سياساته والآليات التي يمكن أن ينتهجها في التعاطي مع الملفات الداخلية والخارجية؛ ثانيًا مدى التزامه بالوعود التي قطعها للناخبين خلال حملته الانتخابية، وقدرته على الوفاء بها؛ ثالثًا براعته في التوفيق بين عنصريته البيضاء، وبين وحدة الشعب الأميركي، وحماية الديمقراطية الأميركية على المستوى الداخلي، وبين تعزيز مكانة الولايات المتحدة العالمية كقطب أول، وبين حماية التحالفات الاستراتيجية لبلاده مع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وإسرائيل الدولة اللقيطة، ووقف الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط والملف النووي الإيراني، وعلاقاته التجارية مع الصين الشعبية وروسيا الاتحادية، والاتفاقات والمعاهدات الدولية الصحة والمناخ وغيرها؛ رابعًا العلاقة مع اللوبيات المختلفة، ومدى التكامل أو التنافر مع المجلسين الشيوخ والكونغرس، وتأثيرهم على برنامجه ونهجه السياسي والإداري، الذي وفق ما أعتقد، ابتعد قليلاً عن برنامج الحزب الجمهوري.
هذه العوامل أفترض ستمكن المراقب الأميركي والعالمي من استشراف وتحديد سياسات رجل العقارات والصدمات والصفقات، فإذا جاء بفريقه السابق في إدارته الأولى، فلن يتغير شيء بالمعنى الجدي في سيرورة سياساته القديمة، ولكن في حال جدد فريقه، وجاء بوجوه جديدة لها خلفيات مغايرة نسبيًا، من الممكن الاعتقاد، أنه سيلجأ لانتهاج سياسة وآليات مختلفة سلبًا أو إيجابًا. لا سيما وأن التفويض الذي حصل عليه من نتائج الانتخابات، ومنح حزبه الأغلبية في المجلسين، قد يعمق سياسته وغطرسته، التي تسكنه، أو يدفعه لمراجعة تلك السياسة، خاصة أن حملته الانتخابية كانت أكثر اعتدالاً نسبيًا من حملته الأولى.

إذا توقفنا أمام وعده بوقف الحروب في أوكرانيا وفلسطين ولبنان، يمكن أن يطرح العديد من الأسئلة، ماذا عن اليوم التالي لوقف الحروب، وخاصة على المسار الفلسطيني واللبناني؟ هل سيكبح جماح بنيامين نتنياهو وحرب الإبادة الجماعية، أم سيعمق مسار صفقة القرن التي بدأها بالاعتراف بالقدس العاصمة الفلسطينية في 6 كانون أول/ديسمبر 2017، وما تلاها من إجراءات وانتهاك لحقوق الشعب الفلسطيني، أم سيعيد النظر بها؟ وهل سيمضي قدمًا في خيار الاستسلام الإبراهيمي؟ وما مدى تأثيره في الضغط على العربية السعودية لدفعها نحو التطبيع؟ وهل يفترض أن الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، هو ذات الشخص الذي كان في ولايته الأولى، أم أنه سيكون أمام رجل دولة آخر، له مواقف واضحة في العديد من الملفات وخاصة ملف القضية الفلسطينية والمسألة اللبنانية؟ وكيف سيتعامل مع حليفه نتنياهو، الذي طعنه في أعقاب نتائج الانتخابات عام 2020؟ هل سيعطيه كرت بلانش لمواصلة الإبادة بطرق أخرى وطمس الحقوق السياسية الفلسطينية، ويضم الضفة الفلسطينية وغيرها من الأراضي العربية لتوسيع مساحة دولة الإبادة الإسرائيلية، حسب وعده للمليارديرة الإسرائيلية الأميركية، الدكتورة مريم إديلسون، أم سيعمل على التخلص منه لرد الصفعة؟.

وفي السياق هل هناك لدى القيادة الفلسطينية والقيادات العربية الإمكانية والقدرة على إبرام صفقة مضادة لصفقته مع مريم إديلسون لخلق حالة من التوازن والذهاب لحل سياسي ممكن والدفع باستقلال دولة فلسطين المحتلة؟ وماذا عن علاقته بالأمم المتحدة، هل سيواصل البلطجة واستباحة مكانتها الأممية، أم سيحاول التعامل بإيجابية أكثر مع قراراتها؟.
أسئلة كثيرة ومتشعبة يمكن طرحها بشأن الملفات المختلفة المطروحة أمامه، وعلى أصحابها في القارات المختلفة، ومن المبكر الاعتقاد بما ستؤول إليه الأمور، وإن كانت محددات سياساته المركزية واضحة على الصعيدين الداخلي والعالمي.