الشعارات والخطابات الشعبوية التي رسخها ترامب بين أنصاره وانتشرت على شكل شبيه بفيروس عدوى إيجابي بين الأميركيين، حملته بقوة لاستعادة ليس فقط مقعده المسلوب في البيت الأبيض منذ انتخابات عام 2020 وفق قناعاته، بل إلى احتفاظ الحزب الجمهوري الجديد بأغلبية في مجلسي الكونغرس (النواب والشيوخ)، وهي ظاهرة لم تتكرر منذ قرابة أربعة عقود مع أي من أحد الحزبين الكبيرين، الديموقراطي والجمهوري. لكن ترامب فعلها هذا العام في سياق العقيدة الترامبية "أميركا أولاً" "America First" ولنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى "Make America Great Again MAGA"، شعارات رافقت ترامب ورددها طيلة حملته الانتخابية الممتدة منذ خسارته في انتخابات عام 2020 حتى إعلان فوزه يوم الخامس من نوفمبر 2024.
في أول تفسير لها على ما يعنيه شعار "أميركا أولاً" جاء على شكل مقال رأي لمستشار الأمن القومي إتش آر ماك ماستر وجاري كوهن، مدير المجلس الاقتصادي الوطني، حملته صحيفة وول ستريت جورنال في 30 أيار/مايو عام 2017، لتوضيح رؤية إدارة ترامب للسياسة الخارجية من الناحية العملية، لدور أميركا في العالم. يقول: "أميركا أولاً" لا تعني أميركا وحدها. إنه التزام بحماية مصالحنا الحيوية والنهوض بها مع تعزيز التعاون وتعزيز العلاقات مع حلفائنا وشركائنا. ويضيف مستشار الأمن القومي في مقاله: "في إسرائيل، أكد الرئيس ترامب أن الدولة اليهودية الآمنة والمزدهرة والديمقراطية أمر أساسي للمصالح الأميركية في المنطقة. بالمقابل، "أكد ترامب للقيادة الفلسطينية أنه يتفهم أهمية المشاركة الأميركية في السعي للتوصل إلى اتفاق سلام تاريخي بين الإسرائيليين والفلسطينيين".

وفي هذا السياق، فإن التأكيد الأول لترامب كان صحيحاً، وأظهر التزاماً راسخاً بما اسماه أمن الدولة اليهودية ورخائها طيلة فترة رئاسته الأولى، والتي تضمنت إعلان صفقة القرن المشؤومة. بينما التأكيد الثاني كان بعيداً جداً عن دور الوساطة النزيهة التي من المفترض أن تتسم بها دولة الرعاية لعملية السلام، وتجاهل ترامب في صفقته أبسط حقوق الشعب الفلسطيني، وأظهر فهماً ملتوياً في كيفية تحقيق اتفاق سلام تاريخي تقبله القيادة الفلسطينية. بعبارة أخرى، أغرق ترامب حل الدولتين لأن هذا الطرح لا يتماشى ومصالح الولايات المتحدة في المنطقة.
ترامب الذي يتفاخر أنصاره بأن فترة ولايته الأولى لم تشهد حربًا أميركية واحدة في العالم، يعود الآن من جديد إلى البيت الأبيض، وسط دائرة نيران كثيفة غذاها سلفه بايدن في أكثر من منطقة عبر العالم ومنها منطقة الشرق الأوسط تحديداً، متعهداً من جديد أنه سيعمل على وقف هذه الحروب والدفع بالأمور نحو التهدأة، لكنه لم يأتي على ذكر حل الدولتين ولو لمرة واحدة لإنهاء جرائم الاحتلال الإسرائيلي التي تخطت حدود حرب إبادة جماعية وتجاوزت تصنيف التطهير العرقي بحق الشعب العربي الفلسطيني منذ أحداث السابع من أكتوبر من العام الماضي، بينما تحدث كثيراً عن خطته لإنهاء حرب بايدن في أوكرانيا بعد 24 ساعة من دخوله البيت الأبيض في حال فوزه في الانتخابات الرئاسية.
يقول خبراء السياسة أن صانع القرار في أي دولة تنحصر خياراته في مسارين "النشط والسلبي". الأول، إما أن يتجه إلى تصعيد الصراع وفرض سياسة التحدي مع الأعداء للحفاظ على مصالح بلاده وحماية حلفائه، والمسار الثاني، السير في مسار سلفه مع إجراء تغييرات ذات مغزى على السياسة الخارجية. ونظراً لان الرئيس الجديد ترامب تسلم حقيبة ملتهبة من الملفات من سلفه، فإن الخيار الثاني هو المُرجح لسياسته الخارجية القادمة لاحداث الفروقات الملموسة في السياسة الخارجية، تحقق إنجازاً سريعاً يقدمه لجمهور الناخبين الأميركيين. وأقصر الطرق هنا، هو الذهاب إلى صفقة تبادل تشمل الإفراج عن 11 أسيراً أميركيًا في قطاع غزة -من أصل 46، كان قد فشل بايدن في الإفراج عنهم على الرغم من كثرة المبادرات التي طُرحت وأفشلها نتنياهو - لعدة أسباب من بينها، استخفافه بالإدارة الأميركية ومواقفها.  

بالعودة قليلاً إلى الوراء لاستشراف القادم، عند التدقيق في الفترة الرئاسية الأولى لترامب "2017-2021" وما تم طرحه في بنود صفقة القرن، فإنه من السهل العثور على مواقف تاجر الشنطة، البائع المتجول وقطب العقارات في مدى فهمه وإدراكه لطبيعة الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. والذي يفضل دائمًا الذهاب إلى صفقات سياسية على غرار الصفقات التجارية التي إعتاد العمل عليها منذ عقود وعادة ما تكون خسارته فيها صفرية أو تكاد. لذلك أعتقد أن ترامب الجديد سيكون إنعكاساً لصورته القديمة إن لم يكن أسوأ في نظرته لكيفية حل الصراع الدموي القائم، بالنظر لموقفه السلبي من الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي وقراراتهما، إلى جانب التصاقه المعهود بمصالح إسرائيل، الحليف الأوثق لواشنطن.

وفي الضفة الغربية، من المتوقع أن يعود ترامب إلى سيرته الأولى في ترسيخ ما تبقى من بنود صفقة القرن، التي في جوهرها كيانات فلسطينية منفصلة (كانتونات) عن بعضها، تقطعها الطرق الالتفافية والبوابات الحديدية وحواجز الاحتلال، وتنحصر سيادتها الوهمية داخل المدن المحاطة بالمستوطنات القابلة للتمدد وفق "الاحتياجات الأمنية" بحسب ما تروج له حكومة اليمين المتطرف و"التوسع الطبيعي" وفق مصطلحات نتنياهو. هذه الكانتونات المنفصلة أطلق عليها ترامب ذات يوم "إمارات"، وستكون البداية مع إطلاق يد حكومة الاحتلال في ضم مزيداً من الأراضي لبناء وتوسيع المزيد من البؤر الاستيطانية، مع الإبقاء على قراره الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ساري المفعول.
في قطاع غزة حيث التطهير العرقي القائم منذ قرابة 400 يوم، سيواصل نتنياهو وتحت ضغط لوبيات إسرائيل في واشنطن جر ترامب من شعره لتبني مخططاته القائمة على، أولاً: استمرار فصل قطاع غزة عن الضفة الغربية وهذا ينسجم تمامًا مع مشروع "الإمارات/ الكيانات" المنفصلة التي حددها ترامب في صفقته. ثانياً: دفع ترامب للمساعدة في استحداث سلطة متجددة بتمويل عربي، ينحصر عملها فقط في إدارة الشؤون اليومية والاحتياجات الإنسانية للمواطنين (أشبه بالبلديات) دون الحديث في الأمور السياسية. ثالثاً: إبقاء السيطرة الأمنية كاملة لإسرائيل على قطاع غزة. مقابل -وفقاً لبعض التسريبات، تأمين خروج آمن للمسلحين من قطاع غزة إلى دولة ثالثة، سيتم تحديدها لاحقاً.
ما نعرفه حتى الآن هو أن ترامب الشعبوي الغوغائي الدكتاتوري كما يصفه المعارضون، زعيم القرارات على السوشال ميديا، المتحلل من التحالفات الدائمة نحو الصفقات المؤقتة الرابحة. وما لا نعرفه حتى الآن وستثبته الأيام القادمة بعد 20 يناير 2025، هو مستوى التحديث الذي وصل إليه ترامب - بعد غياب أربع سنوات فيما يتعلق بكيفية حل الصراع، ومدى قناعته بمخططات الشرق الأوسط الجديد التي تتبناها مراكز صنع القرار في واشنطن وروج لها نتنياهو على منصة الأمم المتحدة. وما إذا كان مستعداً للضغط على إسرائيل لإنهاء الصراع وإنجاز حل الدولتين. أعتقد أن هذا متوقف إلى حد ما، على صلابة الموقف السعودي الرافض لفكرة تطبيع العلاقة مع إسرائيل دون إعلان قيام دولة فلسطين على حدود الرابع من حزيران 1967. فهل ستستمر آخر القلاع العربية في الصمود والثبات، في عصر الانهيارات الكبيرة، أو سيُترك الشعب العربي الفلسطيني وحيداً في الميدان.