ماذا حدث؟! وكيف حدث؟ ولماذا حدث؟ ليست من الأسئلة الأساسية وحسب، التي يجب على الصحافي الإجابة عليها بمهنية ومصداقية عالية، بل هي الأسئلة الأساسية التي يجب على الخبراء في العمل السياسي والدبلوماسي المحترفين منهم، أو العاملين في ميدان التحليل السياسي، أما الإجابة على سؤالي: أين ومتى، فهذا لم يعد لأحد القدرة على إخفاء هذين العنصرين الهامين أيضًا، نظرًا للعيون المحلقة في الفضاء، المبصرة والمتتبعة للصغيرة والكبيرة في مسارات حياة الناس، ورؤية الوقائع القديمة والحديثة والمستجدات من كل جوانبها لحظة بلحظة، بوضوح ودقة عالية، لذلك بات عمق ميدان المناورة الكلامية أقصر مما يظن محترفوها، أما الذين اتخذوا التحليل السياسي كحرفة (مهنة) للتكسب والارتزاق، فإنهم سيفقدون شرعية (الضمان والتأمين) عندما ينكشف قصور تقديراتهم وبصيرتهم، مقارنة مع طول ألسنتهم، وعندما يدرك الجمهور دورهم في صناعة الأوهام وتسويقها، تلبية لرغبة مشغلهم. وأن ما سمعته آذانهم، وما رأته أعينهم، كان لتعميم مفاهيم هلامية هوائية لا يبنى عليها حاضر، ولا تفتح أفقًا نحو المستقبل.

يحتاج أي مجتمع بشري وإنساني إلى رئيس، أو زعيم، أو قائد، أو بطل قد يكون حقيقيًا يخرج من ثناياه، أو أسطوريًا، بينما يحين الزمن لتكوين شخصية مشابهة، نظرًا لاستحالة التطابق، وقد يكون الأمر مشروعًا، ما دام الأمر منهجيًا منضبطًا بمجموعة من القيم الثقافية التي لم ينلها التزييف عن عمد، فيبرز (الزعيم البطل) المفترض من رحم المعاناة والتجارب المريرة والامتحانات النظرية التي تبرهن على صحته العقلية والنفسية والعملية، وقدرته على النجاة بالمجتمع في اللحظات المصيرية، فيتكرس في ذاكرة المجتمع كمخلص بمعجزة أو دونها، لكن العكس سيحدث، والانهيار سيكون أسرع من الوقت اللازم لتثبيت فزاعة الحقل المعروفة في ثقافات الناس كافة، إذًّا تقصد المهووسون بصناعة شخصيات البطل والزعيم وغيرها، تسريع نموها، وتضخيمها، وتزيينها وتلميعها، بالتزامن مع رسم هالة مقدسة، رغم اشتقاقها من أساطير مخترعة مبتدعة، لا وجود لها في قاموس المجتمع "الشعب" المثقف، وترفع حول هذه الشخصية المصطنعة، مضادات مانعة لأي مناقشة عقلانية لخطابها وأعمالها، حتى يصير المختلف عنها، والمخالف لمنطقها وأفعالها، متهما بجريمة الخيانة، والارتداد والكفر أيضًا.

لكن هذا المجتمع المأخوذ بهذه الشخصية تنهار أركانه، وقيمه الأخلاقية، ويتوه باحثًا عن النجاة، فتغلب (الأنا) على المجتمع، الذي سيتبعثر حتمًا، في اللحظة التالية لسقوط الشخصية الخارقة –كما صورت للمجتمع– ذلك أن هذه النوع من المجتمعات شبيه بمجتمع رقعة الشطرنج، حيث يتحدد مصير المجتمع (أحجار الشطرنج الأخرى) بالضربة النهائية للملك، التي قد تأتي مبكرة، بينما معظم الجنود والأحصنة والقلاع على الرقعة، أو قد تأتي في وقت لم يبق فيه إلا الملك وبضعة أحجار ضعيفة. تمامًا كما يحدث في الحروب بين البشر الذين يعطلون أدمغتهم، ويبطلون مفاعيل بصيرتهم، ويعدمون قدراتهم باتكالهم على (البطل المفترض)، أما الذين يسيدون الحكمة، والعقل، ويستخلصون العبرة من كل تجربة، ويركزون قدراتهم العقلية والذهنية، ويتمركزون في جبهة المبادئ الإنسانية، ويعتبرون القائد موكلاً من المجتمع الذي منحه الثقة، لرجاحة عقله، وبعد نظره، وصواب رؤيته، الذين يعتقدون أن (المكلف) قادر على انتزاع النجاح والانجازات، وأن  الخطأ الذي يشوب أي تجربة، لن يؤدي إلى سقوط المجتمع كأحجار الدومينو، وإنما سيعطي دافعًا لتركيز البصيرة، والنظر والعمل بأقصى طاقات العقل، لتصويب المسارات، وقيادة المجتمع نحو الأمان وسلام.